نجم والي rnقديماً قيل، بأن الانتظار ينتسب للشرط الإنساني مثلما تنتسب الزنابير للعسل، المؤمنون صادقوا الدعاء مثلاً ينتظرون منقذهم الذي يعتقدون أنه يشفيهم من كل العاهات، من كل سوء، أما نحن الذين نجرأ على تسمية أنفسنا باسم آخر، لا نفلت أيضاً من الانتظار ذلك دون أذى،
ننتظر وننتظر ظناً منا، أن كل شيء سيكون في وقت قريب على ما يرام، وأن غودو"نا" المنتظر سيعوض لنا عن الزمن الذي خسرناه بانتظاره. لكن حِسبة بسيطة للانتظار وعلاقته بالبشرية، ترينا أن الانتظار هو امتياز عراقي قبل كل شيء، وأن غودو الذي ننتظره يختلف عن زملائه الآخرين بكل شيء. مجرد إلقاء نظرة على الكرة الأرضية طولاً وعرضاً، ترينا ذلك مثلما ترينا كيف أن العراقيين، وتلك صفة خاصة بهم عليهم الافتخار بها أصلاً قبل أن يفتخروا بشيء آخر، ليس ذلك وحسب، بل هي سلوكهم الدائم الذي لا ينافسهم عليه شعب! هل نحصي قرون الانتظار عند العراقيين؟ أين نبدأ؟ من النبي إبراهيم الذي أراد أن يذبح قرباناً، فأنتظر وأنتظر، وكاد في النهاية أن يذبح أبنه بالفعل، لو لم يكافئه ربه بشاة سمينة للذبح بديلاً عن الابن؟ وماذا عن نوح، أبونا أو جدنا الأول الذي جمع كل ما له علاقة بالحياة على سفينته لكي ينقذ البشرية من الغرق، وعندما أراد أن يتأكد من نهاية الطوفان بعث بحمامة في فمها سنبلة، لكي يعرف إذا كانت الأرض جفت أم لا؟ لم يشأ لها العودة حقيقة! حمامة نوح ضلت طريقها، كما كتب أبن العم الأسباني رافائيل أليرتي، وذهبت بدل الشمال إلى الجنوب، بل ضلت طريقها، لأنها ظنت البحر سماءً، والليل نهاراً، والصيف شتاءً، ثم ظلت تخطأ وتخطأ، حتى يومنا هذا؟ وماذا عن برج بابل، الذي كان على قمته أن تلامس السماء، آلاف من السجناء، آلاف من العبيد رطنوا بلغات وألسن مختلفة وهم يشيدون ببرجهم، انتظروا وانتظروا، دون أن يرعبهم أن البرج سينهد عليهم ويطيح بكل ما له علاقة بالانتظار، بكل ما عندهم من أمل بإتمام البناء؟ وبعد؟ ماذا أيضاً عن آلاف المسببين الذين جلبهم نبوخذ نصر، أولئك الذين جاءوا من بلاد كنعان، جلسوا على أنهار بابل ينشدون أغنيتهم، يحلمون بالعودة؟ ماذا عن؟ ماذا عن..وووو؟ من الصعب العثور على نقطة في تاريخ العراقيين، سكان النهرين دجلة والفرات، سكان وادي الإنتظارين، دون الحديث عن أزمان الانتظار التي دمغت حياتهم. التاريخ البعيد والتاريخ القريب يقول لنا ذلك. كم أنتظر جنود الأسكندر الكبير نهاية حملتهم، لكي يسمعوا من ملكهم المغامر الذي لا يكل كلمة تدعوهم بالعودة إلى بيوتهم حيث انتظرتهم العائلات، الأم والأخت وقبلهما امرأتهم الحبيبة، بعضهم ملوا الانتظار وقرروا الإقامة في الأرض التي وطئوها، اليوم يتحدث المرء في جبال قندهار وفي أماكن أخرى من آسيا عن سلسلة المحاربين أولئك. ماذا عن الكسندر نفسه، هل ملّ هو الآخر الانتظار فقرر الإقامة في بلاد وادي الرافدين قريباً من بابل، ليموت هناك أخيراً مريضاً بالحمى، بحمى الانتظار؟ ماذا عن الحسين الذي أنتظر وأنتظر في كربلاء عبثاً قدوم أولئك الذي وعدوه بالتضامن معه؟ قُتل الحسين على أيدي أعدائه بسرعة عجيبة، هل ملّ هو الآخر الانتظار؟ ماذا عن صرخات المحاربين الذي قاتلوا معه تضامناً ظناً منهم أن نجدة سريعة ستجيء؟ الانتظار، الإنتظار، يا لتلك الدمغة التي أصبحت علامة على جباه العراقيين، أي وعيد تحمل معها وأي انتظار؟ كم أنتظر العراقيون حتى يعود هولاكو إلى دياره، وكم انتظروا حتى يملّ الأتراك من كل الجهل الذي نثروا حبوبهم المسمومة في أراضي البلاد؟ وكم انتظروا لكي يتأكدوا أن الجنرال مود الذي خطب فيهم، وقال، "جئناكم محررين ولسنا فاتحين"، سيكون أميناً لجملته تلك؟ يقول الألمان: الرجل كلمة، لكن الإنكليز كما يبدو جُبلوا من طينة أخرى غير طينة الكلمات، وهو قدرهم أن يتناسلوا الخراب في الأرض التي حلوا فيها، وهو قدر الأرض مثلما هو قدر الناس، الأرض الخراب هي الدمغة التي تركها الإنكليز في كل مستعمراتهم عسكرياً، وقبل ان ينطق بها شاعرهم تي أس أليوت! لكن ما هو قدر العراقيين، إن لم يكن الانتظار؟ ومتى دُمغ العراقي بغير دمغة الانتظار؟ خرج الإنكليز وجاءت الجمهورية، قتل العسكر ما شاء لهم القتل، وقالوا لهم انتظروا/ ديموقراطيتنا قادمة، ومنذ ذلك الحين، القتل يتناسل يلبس البدلة العسكرية، والانتظار يتناسل على الطرف الآخر. كم أنتظر العراقيون؟ تسع سنوات والعسكر يتداولون القتل، ثلاث حكومات، أولها حكومة قاسم، الثانية حكومة عارف، والثالثة حكومة عارف أيضاً، والرابعة؟ الرابعة حكومة من طرار آخر، حكومة علمت العراقيين أن ينتظروا بشكل جديد، في المرة هذه علمتهم التدرب على النسيان، على نسيان الانتظار 35 عاماً من حكم البعث وصدام، بكل ما حواه من حروب وجوع وقمع وسجون، وفي كل العقود الثلاثة تلك والنصف، كان على العراقيين أن يتعلموا درساً واحداً: الانتظار. في المرة هذه قيل لهم ستأتيكم: ديموقراطية من طراز فريد! في كل مرة يثبت من جديد: الانتظار تلك القضية الوجودية الكبيرة التي عرفناها في الأدب بشكل واضح عند صاموئيل بيكيت، لا تحتاج معرفتها إلى درس أدبي كبير في العراق، أنها الهواء الذي يغلف الإنسان، الإنسان
منطقة محررة :فـي انتظار غودو
نشر في: 31 مارس, 2010: 05:29 م