مذكرات "كشكش بيه" أو نجيب الريحاني (شارلي شابلن العرب) صدرت في القاهرة (عن المركز القومي للمسرح).في هذه اليوميات يتتبع الريحاني خطاه، منذ بداياته، وحتى قبيل وفاتهكيف انخرط في المسرح؟ كيف نجح؟ وكيف فشل؟ كيف تعرّف إلى بديعة مصابني وسيد درويش، وبديع خيري، ويوسف وهبي؟ كيف كانت أجواء الفن في بدايات القرن الماضي في القاهرة، وكيف كان الجمهور، والمسارح؟ يدوّن الريحاني كل ذلك بأسلوب بسيط أخّاذ، يتخلله كثير من السخرية، والفكاهة والألم... والفرح.
اخترنا، من هذه المذكرات نصوصاً تحيط بمجمل أجواء "زعيم المسرح الفكاهي".موظف وغاوي تمثيل!في عام بدأت صلتي بالمسرح، فرغم أنني موظف في شركة السكر بنجع حمادي إلا أنني كنت صديقاً شخصياً لكبار الممثلين في ذلك العهد، وكنت أجد لذة كبيرة في زمالة هؤلاء الممثلين... ولو أنها كانت حتى ذلك الحين مجرد زمالة من غير تمثيل...!وكنت كثيراً ما أمضي أوقات فراغي متنقلاً بين قهوة برنتانيا ـ التي كانت بمثابة ناد للفنانين العاطلين، وبين مسارح عماد الدين، وكان من أصدقائي في ذلك الزمان الغابر الخواجة سليم أبيض، شقيق جورج بك أبيض، والمرحوم عزيز عيد والزميل استفان روستي وغيرهم...وكنت أنا بالنسبة لهؤلاء كالمليونير بالنسبة لفقراء الهند... فقد كنت موظفاً أنال مرتباً شهرياً وأنا أضع ساقي فوق الأخرى... أما أغلبية الممثلين وقتذاك فكانوا يحصلون على مرتباتهم كل حين ومين. أصبحت عاطلاًوقد صدق رأيي في نفسي إذ بعد أن حصلت على نقودي التي اقترضتها لفرقة أبيض وحجازي... نقودي التي دفعتها جنيهات وقبضتها ملاليم... صارحني جورج أبيض بك برأيه فيي... وهو أنني ممثل فاشل لا أصلح حتى للقيام بالأدوار البسيطة... وقررت الفرقة بناء على ذلك الاستغناء عن خدماتي وخرجت من المولد بلا حمص... مع أنني دخلته وفي جيبي جنيهاً!وهكذا أصبحت خالي الوفاض من كل شيء... فلا عمل... ولا نقود تظمئنني على المستقبل... ولكن الحياة كانت حلوة وقتئذ... فكنت أشاطر زملائي الممثلين العاطلين جلستهم على قهوة برنتانيا... التي كان يملكها رجل يوناني يدعى بركلي... وكانت هي محلنا المختار الذي يتحملنا عند الشدائد... وكان صاحب القهوة رجلاً يحب التمثيل والممثلين... لله في لله... فكان يعطينا ما نطلب ولا يشكو من تضخم حساب "الشكك" أبداً...! عودة إلى البطالة!ولكن...ولكن ما أصعب النجاحلم يطل بنا الأمر في مسرح، "الاجبسيانا" حتى عدنا صفر الأيدي من جديد! وبعد أن كنا في "الطالع" أصبحنا في "النازل".كان الجمهور قد مل مشاهدة رواياتنا التي كررناها مراراً وأعدنا تمثيلها تكراراً... أضف إلى هذا أن هذه الروايات لم تكن محلية لا قلباً ولا قالباً مما يستسيغ الجمهور أن يراه مرة فوق مرة... بل كانت كلها مسرحيات كوميدية مترجمة بالنص كما قلت... ولذلك بدأ الجمهور ينصرف عنا...وبعد فترة وجيزة كان علينا أن نلقي السلاح...وعدنا إلى قواعدنا قهوة الطيب الذكر "بركلي" ننعى العشرة جنيهات!البورصة تصعدوفي الفترة التي مرت بي عقب فشل مشروعنا... عادت بي الذاكرة إلى عهد الوظيفة... ورحت أتحسّر على الماضي... يوم أن كنت أقبض مرتباً ثابتاً وأنا أضع ساقي اليمنى على ساقي اليسرى... وبدأت ألعن قلة عقلي التي جعلتني أستند على "حيطة مايله"... هي التمثيل...!ومكثت شهوراً أتحسّر...وفي يوم جاءني الزميل استفان روستي يعرض عليّ عملاً بمسرح "الأبيي دي روز"، فتنفست الصعداء...! ميلاد كشكش بيه!وذات يوم سألني روزاتي عن المشروع الذي اقترحته، فقلت له انني أريد تقديم اسكتشات تمثيلية استعراضية يدخل فيها التمثيل دون أن يخرج منها الرقص والموسيقى فمثلاً عمدة من الريف يزور القاهرة بعد أن يبيع محصول القطن ويملأ جيوبه بالذهب، فتسحره ملاهي القاهرة وفتيات المراقص وإذا به يخسر كل نقوده، ولا يجد أجرة القطار التي يعود بها إلى قريته.وما إن سمع روزاتي بالفكرة حتى أعجب بها وحبّذ تنفيذها وهكذا بدأت شخصية كشكش بيه عمدة كفر البلاص ترى النور!عصر ذهبيكان نجاحي في هذا اللون، "الفرانكو آراب" يفوق حدود الوصف... خصوصاً في مسرح الابيي دي روز... الذي لا يرتاده إلا الطبقات العليا من الناس... وبدأ الذهب يتدفق إلى جيوبي فارتفعت في الليلة إلى مائة وخمسين قرشاً ثم إلى جنيهين ثم إلى خمسة... وهكذا... وفي فترة قصيرة أصبحت كل شيء في مسرح الابيي دي روز.كان روزاتي معجباً بي للنجاح الكبير الذي لقيته برامجنا... بينما كانت مدام روزاتي معجبة بي لأسباب أخرى.وهكذا ضممت الفخر من أطرافه على رأي مهيار الديلمي...حرب باردةوبدأنا العمل في مسرح الرينسانس وفي النفس ما فيها من آثار التقاضي مع روزاتي، وانضم إلينا المرحوم أمين صدقي واستفان روستي، وعبد اللطيف المصري... كما انضم إلينا لأول مرة المرحوم عبد اللطيف جمجوم...وفي أول رواية قدمناها، تعمدنا أن نثير غيظ روزاتي فأسميناها "ابقى قابلني" وكانت هذه الرواية فاتحة عهد جديد في فن "التريقة" و"التأويز" على المنافسين أو بعبارة أخرى كانت إلى حد كبير طريقة روسيا وأميركا في حربهما الباردة!وقد انتشرت هذه التقليعة تقليعة الحرب الباردة في ذلك الحين انتشاراً واسعاً... فكانت الفرق المتنافسة تختار أسماء رواياتها بحيث تثير أعصاب الفرق الأخرى
هكذا تكلم نجيب الريحاني
نشر في: 2 إبريل, 2010: 05:29 م