في شهر تشرين الثاني ٢٠١٠ كانت جدة الرئيس باراك اوباما الفائز بولاية ثانية ضيفة على العاهل السعودي مع عائلتها في مكة لأداء فريضة الحج. وفي تشرين الثاني الحالي منح الامريكان أصواتهم مرة أخرى لرئيس اسم جدته "سارة عمر" زوجة حسين المسلم الكيني الذي تجري دماؤه في عروق رئيس اكبر دولة في العالم.
اما في تشرين الثاني ١٤٨٩ فقد كان كريستوفر كولومبس مكتشف امريكا، محتارا في كيفية تأمين اموال كافية للقيام برحلة مجنونة لاكتشاف ما وراء الاطلسي. فكتب الى ملوك اوربا ورجال الكنيسة انه يحلم بإعادة فتح الطريق امام الاوربيين للحج الى بيت المقدس، وان الامر يحتاج الى ذهب كثير يقول البحارة انه موجود في بلاد بعيدة وراء البحار. لقد توسلهم بحق الديار المقدسة في فلسطين ان يمولوا بعثته الاستكشافية.
وحسب الناقد والكاتب الكبير تودوروف في كتابه "فتح امريكا.. اكتشاف الاخر" فإن القدس وفلسطين والصراع مع المسلمين كان الموضوع الأساسي الذي استخدمه كولومبوس. لإقناع ملوك اوربا بتمويل رحلته المكلفة جدا وراء البحار كي يأتيهم بالذهب ويمكنهم من تحريك جيوش تستعيد كنائس القدس.
يكتب كولومبس قبل عام ١٤٩٢ وهو سنة اكتشاف امريكا، رسالة الى البابا يقول فيها "لقد تم الاضطلاع بهذه المهمة (البحث عن القارة الجديدة) لنستخدم ارباح المشروع في استرداد الديار المقدسة الى الكنيسة المقدسة".
الحج الاوربي المسيحي الى القدس مسقط رأس انبياء التوراة والانجيل، تعرقل فترات طويلة بسبب الحروب التي نشبت بين اوربا والمسلمين في العصور الوسطى. لكن الصدف جعلت هذا سببا يسهل على مستكشف طموح مثل كولومبوس ان يحصل على مال كاف للقيام برحلة مجنونة في بحر الظلمات.
لقد جرى فتح امريكا اذن على خلفية الصراع بين اوربا والمسلمين، وبعد ٥ قرون على ذلك امتلكت الارض الجديدة نظاما سياسيا يحتفي بتعدديته وقبوله لكل مواطنيه، ويسمح بهزيمة مت رومني المسيحي المؤمن بصلابة، امام مرشح من اصول افريقية لديه جدة اسمها سارة عمر تزور مكة وتدعو لحفيدها قرب الكعبة بولاية ثانية.
الانتقال من لحظة كولومبوس الدينية المتشددة الى لحظة منح ولايتين لمرشح اسمر لديه جد اسمه حسين وآخر اسمه عمر، يكشف قدرة الغرب الكولومبوسي هذا على المغامرة واكتشاف ممكنات جديدة وانتقاد خياراته بشكل متواصل والوصول الى صيغ اكثر رقيا لادارة الصراع، لكن الامر من جانب آخر يقوم بتذكيرنا كمسلمين بأننا لا نزال نعيش في لحظة القرن الخامس عشر تلك، نفجر حيا يقطنه علويو دمشق، ثم شارعا يسكنه السنة، في استقطاب ديني وطائفي رهيب بدأ شرره يتوزع على الجميع، وفي لحظة خسرنا فيها القدس والازدهار الحضاري وخرجنا تقريبا من التاريخ لولا بقايا نفط وموقع جغرافي بين اسيا الصفراء واوربا الشقراء.
في لقاء مع ساسة ينتمون لطائفة المورمن كان رجلان يتحدثان الينا عن فرصة اصلاح العلاقة مع المسلمين لو فاز رومني على اوباما. ويؤكدان ان رومني ليس جورج بوش وانه سيدشن عهدا مختلفا للحزب الجمهوري. وفي تلك اللحظة شعرت ان ذكرى النبي ابراهيم قد عبرت الاطلنطي على متن سفينة كولومبوس نفسها. فالراهب المورموني نائب بارز في برلمان ولاية يوتاه الامريكية، وحين سألناه عن السياسة الخارجية لاوباما واهم ملاحظات الجمهوريين عليها قبل ايام من الانتخابات، قال انه قد لا يفهم في شؤون العراق ومصر وايران، لكنه يشعر انه يقابل وفدا من بلاد الكلدان حيث ولد ابراهيم ابو الديانات الكبيرة. الرجل ووفق تقاليد او تربية روحية متشددة لدى طائفة المورمن، راح يبكي ويحدثنا بصعوبة متلعثما بدموعه قائلا: صدقوني انا لا اعتبركم من معسكر القاعدة، المسلمون يختلفون عن بن لادن. في عروقكم تسري بشكل ما، دماء ابراهيم ابينا جميعا. يضيف لنا: ابراهيم وانتم ايضا بشكل ما، انزلتم البركة في هذه البلاد.
لقد عبرت ذكرى ابراهيم نحو اوربا ثم امريكا وبدت عظيمة بفخامة كاتدرائيات كل العصور، ونجح اولاد سارة زوجة ابراهيم الاولى وام اسحاق ويعقوب، في تجربة الصيغ الاكثر تطورا. اما نحن الذين ولد ابراهيم في ازقتنا، والذين تصنفنا الحكايات القديمة كأبناء للزوجة الثانية هاجر ام اسماعيل، فقد احتجزنا انفسنا داخل صيغة متآكلة للحياة، ولازلنا نمانع دخول اي عصر آخر سوى حقبة المماليك آخر اشكال تطورنا السياسي تقريبا. ان هذه الصيغة المتآكلة ترسم روح الامة المأزومة على وجوه كل ساستنا، بينما تشجع حفيد سارة عمر على صياغة اكثر العبارات رقيا في خطاب النصر.
لقد انتخب الامريكان مرة اخرى، رجلا من جماعة هاجر زوجة ابراهيم الثانية، واسم جدته الكينية سارة مثل زوجة ابراهيم الاولى. وصاروا قادرين على التنقل بين المحيطات والحج الى بيت المقدس ومكة، بينما ضاعت علينا حتى طرقات دمشق وبغداد واصفهان في تيه لا تنتهي احدى مراحله حتى تبدأ اخرى اشد وقعا.
انها مصائر متشابكة ومتناقضة بين عائلة سارة عمر جدة اوباما المسلمة المؤمنة بعمق، وكولومبس المؤمن بعمق ايضا على الجانب الاخر، تسيطر على خيالي وانا اسمع في فجر هذا اليوم الامريكي، الموسيقى التي يعزفها انصار الحزب الديمقراطي احتفالا بالفوز وانتهاء واحدة من اكثر انتخابات هذه البلاد حرجا وتقاربا في النتائج الشعبية. انه كلام نكرره منذ ١٥٠ عاما حين كان جمال الدين الافغاني يصرخ بالمسلمين كي يخرجوا من الاسطورة نحو العلم. وفي القرن ٢١ لا تزال الاساطير تسخر منا بأبشع صورة.