عزيز التميميمن أين يبدأ المكان في مدينة شيدت مرات ومرات، ودمرت وخربت مرات ومرات؟ ولو أعدنا السؤال بشكل آخر: من يستطيع أن يدرك حدود بصرياثا؟ تلك المدينة التي ولدت من رحم كف محمد خضير، ربما يقول قائل كتعليق أولي: ان حدود البصرة الاسم الآخر لبصرياثا عند عين الجمل التي سماها المسافرون والغزاة وربما قطاع الطرق بــ (الزبير)
ومن قبل قال عنها عجوز هرم انها ما بين الحوئب ووادي الخريب، وربما أكد آخرون أن عين الجمل كانت مجرد فكرة مليحة استفزت ذاكرة الفتي الذي عشق طفلة صغيرة من أطفال البدو الرحّل ودفعه حلمه المجنون إلي تأسيس مدينة ذات سمات أسطورية إرضاء لغرور العاشق العذري، هذا من جهة الصحراء، أما إذا أردنا أن نتلمس حدود المدينة من جهة الماء، فنجد أن غابات النخيل التي دفنت قاماتها في قرص الشمس لحظة انبلاجه لاتؤدي بنا إلي نتائج مقنعة عن حدود بصرياثا مدينة الرمل والطين، والتوابل والحناء، مدينة الملح والخضار، مدينة الماء والبترول، مدينة الحسن البصري والخليل بن أحمد أو مدينة أبو الأسود وواصل بن عطاء، وإذا أردنا أن نضيف نقول مدينة السياب والبريكان في زمن الانفجار . فالحدود مع الاسترسال في البحث والكلام تتلاشي وراء ضباب الاحتمالات، والمكان الذي تكلم عنه القاص محمد خضير ربما لم يكن ضمن مخيلة العرافة التي قالت عن حدود البصرة أو كوثا السومرية بأنها بنت الماء والصحراء، وحين يتداعي المكان بتسمياته نتذكر (أبو الخصيب) مع الزبير، نتذكر شط العرب مع الفاو، نتذكر جيكور والنخيل وقامة السياب التي توحي لطلاب البصرة أنهم هناك وراء رموش النخيل يولدون من جديد، ومع يوتوبيات المكان نجد أن هناك حدود وهمية أظهرتها صورة فوتوغرافية لمشهد ضم غابة نخيل ومجموعة نساء يرتدين العباءة كزي شعبي، مع بروز نسق إشاري يوحي أن المكان لم يكن أكثر من ذاكرة لرائحة الأنثي المتمثلة بالمرأة والنخلة وإشراقات حلم إنساني تمثل بطفل رضيع وثلة سعفات خضر تمايلن مع الريح، وينتهي المشهد بغيوم بعيدة وسرب طيور يقصد حدود الصورة .من يدري ربما أن مكيدة الصورة الفوتوغرافية هي ذاتها التي علقها رسام استشراقي وقف وسط ساحة أم البروم ونسج لوحة من خيال ربما لم يعد مناسباً لحجم العمارة في ذات الساحة، وجعل المارة الذين كانوا يمثلون بائعي خضار وتجار جِمال وتمور وربما مسافرين نزلوا للتسوق وهم في طريقهم إلي مكة، جعل كل هؤلاء يقفون من دون وعي منهم ليرسم لهم مشهداً قرأته في ما بعد ذاكرة مؤرخ مغمور أو ربما تناوله موظف يعمل في مديرية الآثار وتحت ضغط الحاجة إلي الفلوس، باع إرث الرسام الذي أتهم بالجنون وحوكم وأعدم في الساحة نفسها في وقت كان الخليفة العباسي الموفق يقسم أن قامات النخيل زنت بقامات الزنوج فأنتجت التمرد . ولو حاولنا أن نتصور المكان كمفهوم جغرافي لاستطعنا أن نميز مآرب الكاتب وهو يقف عند حافات الصحراء ليصوب نظره إلي حدود المدينة التي رسمها بقلم الكرافيت في دفتر يومياته، ويخط كلمات (بصرياثا .. صورة المدينة) صورة المدينة التي رآها ضمن مجموعة صور عرضها عليه أحد المستشرقين الذي كتب عن المدينة أكثر مما تنفس من هوائها في فترة بحثه في آثار مدينة البصرة القديمة والتي تحاط اليوم بسور من أسلاك prc لتضم ميدان معركة الجمل وسوق المدينة القديم شمال الساحة الميدان وكذلك جامع الإمام علي بن أبي طالب، ومجموعة آبار دفنت بحطام البيوت الطينية آنذاك، ويعلن أن هذه المدينة لا تاريخ لها بالرغم من تسربلها بالحوادث، ويدع التأويل لك عزيزي القاريء أن تضع تاريخاً من حيث ابتدأت مع هذه المدينة، وبالتالي فلك الحق أن ترفض الحكايات التي تؤكد حدودها الحالية، أو تتجاوز رفضك بالإدعاء بالزيف لكل هذه المقولات التي تجعل من بصرياثا جسداً من دون أذرع.حدود المدينةولأن الحكاية تداولتها الألسن وبدل القوّال الواحد صاروا عشرات والمنبر صار لايتسع لمن يقول فإن حدود المدينة ما عادت خاضعة لكتّاب التاريخ ودارسي الأدب والسير، وهكذا يودع كاتبنا بذرة الشك في نفوسنا وهو يبدأ من هذا الكتيب المكسر الأوراق، ليقول من ضمن ما قال عن المدينة، إن حدودها لم تكن موجودة وكل ما قيل عن المكان في هذه المدينة خرافة، فالأرض التي تتكون من التراب والطين والماء والشجر والكائنات الأخري ليس لها دخل في تسمية مكانية هذه المدينة التي جاءت قبل أن يكتب التاريخ، وقبل أن تكون بصرياثا تحمل اسمها الحالي، فالمدينة لم يجزم أحد بأنها كانت موجودة في زمن الأسفار المعلبة والحكايات التي تلد الجن بعد غروب الشمس، ولا أحد يستطيع أيضاً أن ينفي ملامحها التي جاءت موثقة في حكايات من يدعون أنهم يعلنون بداية التاريخ، وكثيرة الأسئلة التي تستفهم عن حقيقة المكان والحدود في هذه المدينة التي كانت ولم تكن، وينبهنا الكاتب في كلماته عن اليوتوبيا أن لا حدود تفصل بين تسمية الـ هنا وتسمية ألـ هناك، وكل ما يقال عن حقيقة مكان معين هو بالأحري تأكيد لتسمية مكان ما، رقعة من الأرض سميت هنا بصرياثا وأخري هناك سميت نيويورك، إنما المعني بهذا الترميز هو صورة المكان المتخيلة، الصورة التي تمثل المكان المرئي لحظة تدوين الحدث، وما المسافة الجغرافية إلاّ تعبير مجازي يؤدي بالإشارة إلي مدلولها الحقيقي، أي تحصيل الصورة المزدوجة للمكان والتي
محمد خضير يعيد مكيدة الصورة الفوتوغرافية
نشر في: 7 إبريل, 2010: 04:54 م