د.شجاع مسلم العاني لم تكن القصص القليلة التي نشرها القاص محمد خضير قبل "المملكة السوداء" سوى تمرينات أولية على كتابة قصة ذات ملامح مختلفة عما كان يكتب وينشر من قصص آنذاك وقد أهمل القاص هذه القصص رافضاً أن يضمها إلى مجموعته القصصية الأولى، التي أطلق عليها اسم "المملكة السوداء" والتي صدرت عام 1973م، وعلى الرغم من ذلك فإن تلك القصص ولا سيما قصته "البطات البحرية" التي فازت عام 1966م بجائزة الملحق الأدبي لجريدة الجمهورية.
"والنداء" التي نشرت في العدد الأول من مجلة الفكر الحي عام 1968م -انطوت على مفاتيح أساسية أصبحت فيما بعد ثوابت واضحة في المنهج الفني والفكري للقاص. بالرغم من أن القاص نفسه، يرفض أن يوصف بأنه ذو منهج محدد، ويزعم أنه يستبدل "الوعي الفني" بالمنهج الفني".‏إن تلك الواقعية الشعبية الماثلة في وصف البيئة والأجواء المحلية والشعبية، وفي وصف شخصية القاع الاجتماعي وتصويرها تصويراً واقعياً وغرائبياً في الآن نفسه، والعبور من خلال اليومي والعارض إلى الثابت والجوهري في النفس البشرية، تصبح ملامح أساسية في القصة الجديدة التي سيكتبها محمد خضير، وستصبح المفردات التي تتردد كثيراً في قصص القاص الأولى، مثل سحري وسري، وثوابت أساسية في منهج فني جديد، يجمع بين ما هو واقعي شعبي وما هو سحري غرائبي. وفي (علي) بطل "المملكة السوداء".. الطفل، الباحث عن ملامح أبيه في ماتركه من أشياء بسيطة بعد أن مات دون أن تكتحل عيناه برؤيته، يمكن أن نلمح شيئاً من بطل "النداء" اليتيم الذي سحره جمال كائنات الهور وطيوره، بحيث يذرف الدموع، لمجرد أنه لمس هذا الجمال وشوهه، عندما حاول الإمساك بطائر "البجع".‏لقد كانت تلك القصص إرهاصات أولية بحساسية جديدة، وقصة عراقية جديدة توشك أن تولد، ولن تكون تلك القصة استمراراً لما يكتبه أبناء جيله من قصص أو تطويراً، بل ستكون بمثابة القطيعة النهائية مع تلك القصص وذلك الجيل الذي غالباً ما اصطلحنا عليه بـ "جيل الستينيات" هذه القصة الجديدة لا تدير ظهرها للواقع المحلي وللشخصية الشعبية المحلية، بل على العكس من ذلك تمثل عودة إليهما، لكن قراءتها لهذا الواقع، لن تكون قراءة أفقية بل ستصبح قراءة أفقية وعمودية معاً. ومن خلال العابر واليومي والمألوف، سيحفر النص القصصي ليصل إلى العمق البئري لهذا الواقع حيث توق الإنسان وأشواقه، وهمومه الأزلية. وسيصبح هذا الواقعي اليومي المألوف، حين يأسره النص القصصي، واقعاً آخر، تخرج فيه الأشياء من متوالياتها في الواقع لتدخل متوالية أخرى هي متوالية النص القصصي الذي يقوم على تغريب هذه الأشياء، بحيث لا يعود هذا النص مجرد استنساخ لهذا الواقع أو رصد سطحي له، بل تغريب له سيتغير المنهج، ولكن الرؤية -بالرغم من أنها لا تنفصل عن المنهج- ستظل غالباً الرؤية الواقعية النقدية، وستتحول النعوت من مثل سحري وسري، والمسميات مثل (روح الأشياء) من مجرد لافتات على جدار النص وفي جسمه ومن دلالاتها على منهج فني يوشك أن يولد إلى منهج فني متكامل تتحول فيه تلك النعوت والأسماء إلى مفاهيم تجد تجسيدها الفني والخيالي في هذا المنهج.‏وسيجد القاص الذي تسعفه ثقافة عميقة ورصينة في الأدب العالمي -كمال منهجه القائم على الواقعي-والسحري المدهش في آن واحد. في رافدين أساسيين أولهما: فكري أو أيديولوجي ماثل في الموروث الإسلامي الذي شهد في مراحل تاريخية معينة، مؤثرات من ديانات أخرى، استطاعت أن توظف في داخله ولأغراضها الخاصة، جوانب سحرية وصوفية غنوصية، وثانيهما: فني ماثل في اللغة السيمية وفي المصورة -الأداة الواقعية والسحرية معاً، وسيتعانق هذان الرافدان في قصص الكاتب، ليتخلق منهما قصّ جديد، يقوم في أحد جوانبه الأساسية على اقتناص ما في الوجه البشري من سحر آسر وما في الحياة الغنية الثرية، من وجوه وجوانب سحرية ومدهشة، ولعل قصة "الشفيع" هي خير ما يمثل هذا العناق بين الرافدين المذكورين.‏وسيجد قاص مثل محمد خضير -يعذبه مثل هذا السحر الآسر، في وجه يطفو فوق إناء لبن وسط الجماهير أو في وجه منزو في مقهى شعبي، أو وجه يجده في الطرق خارج المدن أو قطارات الليل أو غابات النخيل- في فن السينما القدرة على التقاط مثل هذا السحر ومن المعروف أن مخرجين كباراً في السينما مثل جريفث وإيزنشتين ودارير، وفقوا في أسر مثل هذا السحر في الوجه الإنساني، باستخدامهم الرائع للمصورة (الكاميرا). ومن المعروف أن الروس وفقوا -كما لم يوفق أحد- في اكتشاف الإنسان من خلال قناع وجهه العاري على حد تعبير بيراندللو -عن طريق السينما.‏لقد كان ظهور هذا المنهج الفني على يد محمد خضير ضرورة أملتها المعطيات الجديدة في المجتمع العراقي، وفقدان المناهج الفنية القديمة كل إمكاناتها: فلقد تلاشى التيار السردي التقليدي القديم الذي ساد القصة في الأربعينيات والخمسينات وفقد التيار التحليلي الذي ولد في الخمسينيات على يد كل من عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي كل إمكانياته بعد أن انحدر على يد كتاب الستينيات إلى درك الذاتية المغلقة والانثيالات غير المنضبطة للذاكرة، والمفردة المنغومة والعبارة الشعرية.‏لقد اتخذت المؤثرات السينمية في أدب محمد خضير أشكالاً مختلفة وسارت في خط تصاعدي مستمر، بحيث يمكن أن تميز
الكتابة بالكاميرا دراسة اللغة السينمية في أدب محمد خضير
نشر في: 7 إبريل, 2010: 04:58 م