علي عبدالأمير يختار محمد خضير طريقة أخرى في اصدار كتاب. بل تكاد تختلف عن التي يفضلها. فهو يبعث باشاراته الاتصالية - كتابه - من مكان يبدو قصيا في ابتعاده عنه. هو الذي عرف عنه مثابرته وتأكيده فكرة (المواطن الابدي). وحرصه على الانتظام في حياة مكانه (البصرة ) دافعا بفكرة الانتماء المكاني من ملاحظات واقعية الى أخرى أسطورية نجدها حتى في التسمية فتنسحب البصرة لتصبه «بصرياثا".
مكان ومصائر وعوالم تنقذف من الماضي الى الراهن ومن الماضي أحيانا الى المستقبل. هذا الانقذاف وتقاطع المصائر، غالبا ما يتم بأجل القطيعة مع الراهن. الراهن الذي أحال المكان الى علامات رعب, ثمة الحرب وثمة نتائجها: " فالمدينة ذاتها تغص بالحشود الوافدة اليها من المدن الأخرى، جنودا وصحفيين ومراسلين ورجالا يقتفون أثار أبنائهم المتوجهين الى الجبهة امتلأت بهم الشوارع والساحات والفنادق وخيام الطريق. بل إن هذه القطيعة مع الراهن والانتقالات الماهرة كلعب على الأفكار والصور والتشخيص الواقعي - التاريخي، يضعه محمد خضير في شبه تمهيد سبق كتابه "رؤيا خريف ". الصادر عن دار أزمنة – الياس فركوح - عمان 1995وبدعم من مؤسسة عبدالحميد شومان فيقول: "وهل من موضوع, كالحرب, يتقدم بالمحال على الممكن ويسوغ الشطوح الرمزي مالا للحقيقة المقيدة, ويسبق المطلق المجرد فيه الملموس المقرب ؟ أو ليست الفواجع جهة للفراديس ؟ فالمدن المحاصرة تلفظ أهلها وتزحف الى الصحراء، وتستجير بزمانها وترحل الى مبتدئها، والكتابة تنحرف عن سكتها وتطارد اشاراتها معناها، والمخيلة منكسرة. والمؤلف طريد، وحيد، محاصر، حيران, غريب.".القصص هنا في مجموعة "رؤيا خريف " تتحدث عن الوقائع بوصفها رؤى. هناك دائما رؤى، لا أحداث, ومن هذه الرؤى يمكن للكاتب أن يعيد تشكيل مدياته كما يريد من دون أن يقطع عنها محمولاتها واشاراتها الواقعية فتبدو وكأنها تخفق بجنان الفن وترحل الى آفاقه الخلاقة, في الوقت ذاته فهي تأخذ من الواقع بؤرا تشغل تلك الرؤى وتدفع بها. الشخوص والأفكار والنسيج كله يبدو في القصص وكأنه يطلع من (ميثولوجيات ) المكان, ثم تمضي الحكاية وبكل ازمانها الى منطقة متخيلة, منطقة تعيد بناء ما تهدم وتحيل واقعها المدمى والمتشظي الى نوع من المأثورات التي لابد من إقامة علامات لها في المدينة, أبراج, عمارات, شكل جديد للمدينة ومن خلالها يمكن قراءة تاريخ الوقائع المرعبة التي تجسدت على أرضها. الكاتب هنا مسكون بيقين المكان وتحوله الى نقطة ارتكاز جديدة للمعرفة, للمعالم:لحضارية, للحكمة, بل ان المعالم المتغيرة دائما يختارها وهي تطابق ذلك اليقين. يقين خروج المكان من شظفه وبؤس علاماته الى الاندراج الطبيعي في البناء وتقويم الأثر واصلاح ما تهدم. محمد خضير يحيل, الرموز التاريخي والأحداث الماضوية الى علامات ذهنية وبسلامة نجدها تتلاقى مع إشارات واقعية تحولت هي أيضا الى علامات ذهنية, وبطريقة الرسم المتأني نجدها تتحلق في معطى جديد، وكأنه يرسم للمكان ميثولوجياا الشخصية, "أتراحاسيس, سنخاريب, الجاحظ, بديع الزمان, الحريري، بدر شاكر السياب, جيكور، ساحة أم البروم, جندي جريح وشاعر في الحرب, حانة الوردة البيضاء"، ثم فندق "الحكماء الثلاثة »، المكان الذي نجده وقد أصبح ملتقى للمصائر هذا والأشخاص الذين ينقذفون الى المكان لتفحص علاماته المتناثرة, ويصبح بالامكان التعرف على عبارة رؤيا (شمش ): د،لتشرق شمسي على أرض الجنوب وليمتا قوس قزحي على البحر بوابة تعبر منه سفن العالم ". أو تلك العبارة التي يقولها (سن ) المنير والتي تكثف عبر اختيار الكاتب لها، فكرة توقه للعبور من الراهن صوب أوقات أقل رعبا واحتمالات للتطور الطبيعي وزيادة الفاعلية الانسانية: " لينقشع الغبار، وليتوقف المطر الدموي، ولتتدفق السيول الغزيرة فتغسل الأرض من الدماء والجثث وتجرف بقايا الأسلحة المحطمة. وليظهر السهل الأخضر يشقه نهر الحياة جاريا الى البحر البعيد".هذه الإشارات عن قوة النسيج في واحدة من قصص محمد خضير، تأخذنا الى نوع من التشكل المعرفي العميق الذي يصبه الكاتب في قصصه. إنه يأخذنا الى نوع من المكابدة التي لولاها ما جاءت فكرته في القصة بهذه الدرجة من الاقناع, فهو ببراعة ودقة علمية يرسم لنا برجا في قصة " رؤيا البرج "، هو حاذق فيها كمهندس مجدد، ولولا براعته في البناء لما كأن مقنعا في رسم تلك المتاهات التي ينتظم فيها البرج كرؤيا وأسرار. كذلك الحال في قصته "حكايات يوسف " المبنية على جوهر إنساني بسيط يبدو مشعا وسط تلك الدهاليز والأسرار التي يحتويها مبنى جديد تشكل: "عندما اعدنا بناء المدينة, بعد الحرب ".بينما في قصة «داما، دامي، داعو» نجد تلك القدرة على تحويل اللعبة الشائعة الى تراتب ذهني وفكري وقراءة عميقة لتصادم الأفكار. إنها قصة تقوم على فكرة البناء التركيبي فيما هذا البناء لا يصب في خدمة الشكل حسب, بل في حسن وقع المتن الحكائي لها. وهذه تتطلب معرفة بقوانين اللعبة وجاءت هنا مزدوجة, اللعبة الحقيقية ولعبة الكتابة أيضا التي ترق لغتها هنا عند محمد خضير، حتى عندما يذهب الى وصف تفصيلي كهذا: «لعبة الداما، سيدي، لعبة الأعمار
محمد خضير يخرج من عزلته الذهبية
نشر في: 7 إبريل, 2010: 05:01 م