مثل توت عنخ آمون رحل آنطون تشيخوف شابا ليعيش في التاريخ بهذه الصفة فاتنا واسطوريا مساهمة متواضعة من الموت ربما لم تكن ضرورية لصنع خلود كاتب لم تعرف كتابته الهرم، وقد اجتازت مئة عام من الحياة بعد موته اسقط فيها غربال الادب الكثير من النخالة مبقيا على عدد محدود من الاسماء
في كل ثقافة واقل منها عدد الاسماء العابرة للحدود القومية واللغوية، لكن باية صفة عبر تشيخوف الحدود وسافر هذه المئة الاولى في الزمان؟ هل هو كاتب كلاسيكي لانه قادم من زمان اخر، ولأن احدنا لا يمكنه اليوم ان يكتب كما كان يكتب تشيخوف؟ يمكن ان نتورط في الاجابة بنعم دون روية ، لكن إيتالوكالفينو يقترح تعريفا للادب الكلاسيكي، ساخرا بقدر ما هو دامغ، هو الادب الذي نقول دائما اننا بصدد إعادة قراءته"1". يتربص كالفينو بحالة الخجل، من كوننا لم تقرأ هذا الكاتب او ذاك ممن يعتبرهم حدسنا الادبي ضروريين من اجل تكويننا الثقافي ليصنع منها تعريفا مناسباً وبهذا المعنى فتشيخوف ليس كلاسيكيا ليس ثمة خجل من كوننا لم نقرأه –نحاول ان نداريه بالكذب! فهو بوابة دخول ضرورية للكاتب منذ البداية ولا اظن ان هناك الكثيرين ممن يمكنهم ان يتجاسروا على النزول على ميدان القصة دون درس تشيخوف الاول. القصة الاولى التي قرأها احدنا لانطون هي بمثابة الحب الاول رعشة الملامسة الاولى التي نظل نستعيدها بالاضطراب ذاته، حتى لو اقنعتنا الحياة بإمكانية الوقوع المتكرر في الحب، فأن الحبيبة الاولى لايمكن ان تعبر بعصاها مجال البصر الشحيح لحبيبها القديم دون اثر، فما البال لو كانت الحبيبة فقد أكلت من عشبة الخلود تدور عليها الايام دون ان تنال من شبابها؟! عشبة الخلود التي تتضمنها قصصه هي السر الذي يمنع المرة الاولى الني نقرأ فيها تشيخوف من ان تكون الاخيرة. هذا الحضور الدائم هو ما يرسل بأنطون بافلوفيتش بعيدا عن الادب الكلاسيكي كما عرفه الايطالي ايتالو كالفينو الذي يمكن الوثوق بذكائه، وان كان لنا ان نثق في حساسية كالفينو ايضا يكون تشيخوف قد ذهب الى مسافة من الكلاسيكية ابعد بما لايمكن تصوره. * * * قبل ان تحل الالفية الثالثة بخمس عشرة سنة، ترك لنا كالفينو ست وصايا اعتبرها ضرورية للادب في الالفية الثالثة "2" اوصى بالخفة ، السرعة، الدقة، الوضوح ، والتعددية، حاول كالفينو بالاحرى ان يضع القيم التي يحبها في طريق الالفية الجديدة دون ادعاء بأنها كانت غير موجودة من قبل، بل ان الكتاب الذي انجزه في شكل محاضرات لم يمهله القدر لألقائها في احدى الجامعات الاميركية تتبع هذه القيم في تراث الانسانية من ريشة الالهة ما عدت الى بورخيس وجورج بريك مرورا بالتراث الشيوناني وكلاسيكي اوروبا وايطاليا خصوصا، لكنه للاسف لم يأت على ذكر تشيخوف الذي تتجلى هذه القيم في كتابته بشكل فذ. الخفة التي عناها كالفينو وجعل منها معيارا للنجاح والفشل، واعتبرها منهج عمله هي: "إزاحة الثقل عن الناس احيانا، واحيانا عن الكائنات السماوية، واحيانا عن المدن، وفوق كل شيء.. حاولت ازاحة الثقل عن بنية القصص واللغة، واذا كان تشيخوف لم يبلغ بالخفة الحد الذي بلغ كالفينو في الفارس الخفي" وقد جعل درعا فارغا يتحرك ويحارب وينتصر في المعارك ، فانه صنع خفته الخاصة فكائناته تكاد تهم بالطيران في بدايات القصص ، لكن حس المفارقة والسخرية لديه هو ما يقود القصة سريعا الى الثقل، وبجدل الخفة والثقل يرسم تشيخوف لوحاته النادرة للألم الانساني الموظف الذي يجلس في الصف الثاني من الصالة ذات مساء رائعا مستشعراً قمة المتعة في انتظار اجراس المسرح يعطس فجأة وتتحول عطسته في قفا الجنرال الى رعب يؤدي به الى الموت. ولايمكن ان يعتبر السرعة التي تجري بها الاحداث معيارا للحداثة الا يتوقف امام التشابكات العنيدة، والانعطافات السريعة الحادة وغير المتوقعة في قصص تشيخوف، لكن احدا لن يكتب بالسرعة والوضوح والدقة التي في هذا الوصف: "وبينما كانت انا بافلوفنا تتحدث مع زوجها ضمرت وهزلت وشاخت". هذا الوصف ورد بقصة ليست في شهرة موت موظف، او دموع لايراها العالم، هي قصة الزوج، والتي تعد وحدها تمثيلا لقيم الخفة والسرعة والدقة والوضوح وتبدأ هكذا:"توقف احد افواج الخيالة اثناء المناورات للمبيت في مدينة (ك) الريفية الصغيرة، وحدث مثل مبيت السادة الضباط يثير دائما مشاعر السكان المحليين الى اقصى درجات الانفعال والحماس. ونرى في القصة الى جانب حماس التجار لتصريف بضاعتهم الكاسدة حماس سيدات المدينة الضجرات من الحياة الراكدة وكان في المساء حفل الرقص الذي توردت فيه آنا، وقد ساء زوجها الحاسد ان يراها خفيفة وسعيدة فأمرها بالعودة الى البيت، في المناقشة التي لم يستجب فيها لتوسلاتها والتي جعلتها في لحظة واحدة تضمر وتهزل وتشيخ. يبقى ما عناه كالفينو بـ "التعددية" في الرواية – ولا نظن ان عظامه ستتململ لو استبدلنا كلمة الرواية بكلة الكتابة –وهي ان تكون :"كموسوعة" كمنهج معرفة وفوق كل شيء كشبكة من الصلات بين الاحداث وبين الناس واشياء العالم
كالفينو يسأل: لماذا نقرأ تشيخوف الان؟
نشر في: 9 إبريل, 2010: 04:12 م