TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > مدخل لحياة تشيخوف وأدبه

مدخل لحياة تشيخوف وأدبه

نشر في: 9 إبريل, 2010: 04:18 م

شاكر خصباكإن أول ما يلفت نظر الدارس لحياة تشيخوف تلك العاطفة القوية التي تختلج في صدره بحب الحياة وحب الإنسان، فعلى الرغم من أنه قاسى ألواناً من العنت والآلام منذ ولادته حتى مماته إلا أنه لم يضق يوماً ذرعاً بالحياة،
 ولم يحس بالاشمئزاز نحو البشر. فلقد ولد في بيت فقير، وعاش طفولته في جو عابس متجهم. وبينما كان زملاؤه أطفال المدرسة يلعبون في الطريق بعد انتهاء اليوم المدرسي، كان عليه أن يرابط في حانوت أبيه البقال. ولم يكد يبلغ العاشرة حتى أفلس أبوه، وفرّ من مدينة (تانرو) إلى موسكو، وارتحلت معه الأسرة عدا أنطون الذي لبث في المدينة ليواصل دراسته الثانوية. واضطر أن يعمل بعد أوقات الدوام المدرسي محترفاً التعليم لكي يعيل نفسه. ولما أنهى دراسته الثانوية والتحق بأسرته في موسكو ضاعف جهوده في العمل ليكسب من المال ما يمكنه من الإنفاق على أسرته وعلى مواصلة دراسته في كلية الطب بجامعة موسكو. واحترف الصحافة في هذه الفترة من حياته.فكان يمدّ عدة صحف ومحلات فكاهية بالصور القلمية والأخبار والأقاصيص الهزلية. ومما يثير الدهشة أن يكون لشخص يعيش تلك الحياة القاسية هذه المقدرة الرائعة على كتابة الأشياء الفكاهية. وما كاد يتخرج من كلية الطب حتى بدت عليه أعراض مرض السل، وربما كان مرجع مرضه إلى الإرهاق البدني الذي كان ينتابه في حياته اليومية. وظل يصارع هذا المرض صراعاً بطولياً حوالي عشرين عاماً. وضحى بسببه بكثير من متعه ورغائبه، واضطر أن يعيش بعيداً عن موسكو، المدينة التي أحبها من أعماق قلبه، متنقلاً بين يالطا وشبه جزيرة القرم، وجنوب فرنسا، وألمانيا. ثم ختمت مأساة حياته في الثاني من تموز عام 1904.لقد أمضى أنطون تشيخوف الأعوام الأربعة والأربعين في حياة مشرفة، وكان أدبه في الواقع صورة صادقة لتلك الحياة المجيدة. وقد أوقف حياته دائماً لخدمة الإنسانية. فعندما كان يمارس الطب كان يرفض الأجور التي يقدمها إليه الفلاحون الفقراء. وكان ذلك يثير دهشتهم وعجبهم. وحينما انتشر وباء الكوليرا في روسيا عام 1892 هجر الكتابة وعمل مشرفاً صحياً في إحدى اللجان الطبية لمكافحة هذا المرض. وكان يسافر إلى القرى المجاورة ويجمع الناس ليلقي عليهم محاضرات صحية.ولقد بادر إلى نجدة سكان مقاطعة نوفجورد عندما اجتاحتها المجاعة عام 1892، وشكّل منظمة لجمع الإعانات لشراء الأطعمة والأبقار والخيول للفلاحين الفقراء.وبالرغم من صحته المعتلة لم يدع تشيخوف فرصة يستطيع أن يؤدي فيها خدمة لوطنه أو للإنسانية إلا واستغلها. ففي عام 1897 بذل جهوداً عظيمة في إحصاء النفوس العام الذي جرى تلك السنة. ولم يكن متصنعاً في عطفه على البائسين، فقد خطر له عام 1890 أن يحقق في حالة المحكومين بالأشغال الشاقة، الذين تبعدهم الحكومة إلى شبه جزيرة سخالين. وشد الرحال عبر ثلوج سيبريا إلى تلك المنطقة النائية. واتصل هناك بكل سجين من ساكني تلك المستعمرة البالغ عددهم عشرة آلاف سجين، واستقصى أحوالهم. ثم أصدر كتاباً بعنوان (الهاربون في سخالين) يُعدّ الدراسة الأولى من نوعها في مباحث وإدارة وإصلاح السجون. وقد كشف في كتابه عن وحشية الحكومة القيصرية في معاملة الشعب الروسي. كذلك اشتمل على صور قلمية طريفة لبعض المسجونين. ومن الغريب أن ينجو تشيخوف من عقاب الحكومة القيصرية التي لقي على يديها أغلب الكتاب الروس ألوان العذاب وصنوف التشريد والسجن والانتقام بل والموت.ولم يألو تشيخوف جهداً في مساعدة الفقراء. ففضلاً عن قيامه بتطبيبهم مجاناً، وأنشأ في القرية التي يقيم فيها والقرى المجاورة عدة مستشفيات على حسابه الخاص، كما سعى في بناء عدد آخر في النواحي المجاورة، وشيد أيضاً بضع مدارس على نفقته، وحثّ السلطات الحكومية لتشييد مدارس أخرى.وهكذا نلمس سعي تشيخوف الدائب -قولاً وفعلاً- للقضاء على عدوه الأكبر، الانحطاط بكل لون من ألوانه. ويقول الكاتب مكسيم غوركي في هذا الصدد: «كان الانحطاط عدوه الأول، وكان يناضل ضده طوال حياته، ويحاربه بقلم ساخر حاد الشفرة».لم يكن تشيخوف يكتب عن الفقراء أو أفراد الطبقة الوسطى وهو قابع بين جدران بيته الأربعة كما يفعل أغلب كتَّابنا. كان يحاول جهد استطاعته أن يتغلغل في أعماق مجتمعه، ويندس بين الناس البسطاء، يصغي إلى أحاديثهم، ويسمع شكاواهم، ويتلمس مشاكلهم، وعدّته ملاحظة دقيقة حادة لا تفلت من مجالها أدق الإشارات أو اللمحات! ويالها من ملاحظة مدهشة حقاً! فإذا أضفنا إلى هذا الاندماج بالناس وهذه الملاحظة الدقيقة، إدراكاً عميقاً لمشاكل الحياة ولنفسيات الناس، ومشاركة وجدانية لهم، وحسَّاً درامياً وفكاهياً عميقاً، أدركنا لماذا صار أدبه نموذجاً عالياً للأدب الرفيع، فياضاً بأرق العواطف وأدق اللفتات الإنسانية.كان تشيخوف يصرح دائماً أنه لا يمكن للكاتب أن يخلق المواضيع من ذاته، بل ينبغي عليه أن يحتك بالناس ويسمع أحاديثهم ويحاول فهم مشاكلهم، وبذلك يستطيع أن يعبر عنهم بصدق أو كمال. وبما أنه لم يكن يكتب للشعب الروسي فقط، بل للإنسانية جمعاء، فقد آمن بضرورة الرحلات ليطّلع على حياة مختلف الشعوب. وقد سافر فعلاً إلى الشرق الأقصى والأوسط، وج

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram