فريدة النقاش(إن السلطة متي ما خالطت الدين تحولت العقيدة من رحمة إلي نقمة، وصودرت مصالح العباد لحساب حكام البلاد، لهذا كان فصل الدين عن الدولة خلاصا من الرذائل، مجلبة للفضائل لتبقي للدين قداسته وللحكم عدالته).
هذا هو الاستخلاص الأساسي لكتاب (فاروق القاضي) الجديد (العلمانية هي الحل) وعنوانه الفرعي هو: (من أجل المواطنة الحقة والسلم الاجتماعي) والذي نشرته دار العين وقدم له الدكتور (يحيى الجمل) وتضمن سبعة فصول عن الدين والسياسة، والله بريء من قيصر ومن الدولة، وتعايش الدين والعلمانية في المجتمع، ولا دولة في الدين ولا دين في الدولة، ومرجعية الشريعة اجتهاد في الدين، و(لقوم يتفكرون) ويا ليتهم يذكرون يعرفون لكن يتحايلون، وأخيرا في الختام خير الكلام فيما بين العلمانية والإسلام من وئام، وهذا الاستخلاص الشامل هو حصاد دراسة متأنية لتطور عملية فصل الدين عن الدولة والمعارك التي خاضها التنويريون والعقلانيون من الساسة والفلاسفة والمفكرين في البلدان التي انتصرت فيها العلمانية أو تعرضت للهزيمة.ورغم أن موضوع الكتاب قديم وقد درسه من قبل باحثون ومفكرون كثيرون لكنه يضيف جديدا لزاوية التفكير بقراءته لتاريخ وتطور المفهوم في كل من الفكر والممارسة في كل من أوروبا وأمريكا والوطن العربي، وهو يذكرنا أنه من بين المتغيرات الاجتماعية التي نشأت عن حكم محمد علي من سوريا إطلاق الحريات الدينية ، هذا الوضع الذي يغري بالمقارنة الآن مع الواقع العربي المعاصر حيث يجري التضييق علي هذه الحريات وملاحقة من يمارسونها باسم الدين ويكفي أن نذكر في هذا الصدد أن شيخ الأزهر الجديد الدكتور (أحمد الطيب) أعلن بعد توليه الموقع مباشرة قبل أيام أنه يضع خطة لمقاومة المد الشيعي رغم أن الأزهر رعي لزمن طويل مسألة التقارب بين الديانات والعقائد، ورغم أن المذهب الشيعي هو مذهب إسلامي وعلينا هنا أن نتذكر ما حدث وما يحدث للمفكرين الأحرار الذين يتصدون لنقد الفكر الديني.تابع الكاتب ما سماه تغير الأفكار بتغير الزمان تلك التحولات التي عرفتها جماعة الإخوان المسلمين منذ أن قال حسن الهضيبي إن الإسلام لا يفرق بين الدين والدولة، ولا يفصل بين الدنيا والآخرة، وإنما هو دين ودولة وعبادة وقيادة، إلا أنهم وطبقا للظروف عادوا (وطلبوا اعتبارهم هيئة بناء علي نصيحة ثورة 23 يوليو (بألا يرتدوا في الحزبية ويكفي أن يمارسوا دعوتهم الإسلامية)، وسوف نلاحظ أن هذه الاستراتيجية ماتزال قائمة حتي هذه اللحظة في سياسة الإخوان المسلمين، أي الانحناء للعاصفة حينما تشتد ثم الهجوم حينما يضعف الخصم، ولكن عداءهم للعلمانية ثابت ومحاربتهم لها مبدأ من المباديء.ويفضح الكاتب من سياق كشفه لوهم الماضي الجميل ما زخرت به كتب التراث عن قسوة جباة المال والخراج وجشعهم، ونهب أمراء المؤمنين ونزواتهم إذ تمادوا في شراء الجواري والإنعام علي المريدين حتي أصبح الحصول علي فيئ في البلدان المفتوحة هدف الفتوحات الأساسي وليس نشر الدين.ومن أيام بني أمية، ثم من أيام بني العباس من بعدهم، كان بيت المال مباحا للملوك كأنه ملك خاص لهم.وطالما أدى كشف هذه الحقائق إلي صراع مرير مع دعاة الدولة الدينية الذين يتحدثون عن عصر ذهبي وهمي يدعون الناس للعودة إليه، وهو سلاحهم الرئيسي في مواجهة العلمانية التي تشق طريقها رغم كل شيء حتى في أكثر المجتمعات تزمتا وانغلاقا، وذلك بعد أن أثبت تاريخ الصراع بين المقدس الثابت والدنيوي المتغير أنه لا يصح إلا الصحيح لهذا لم يكن العالم المسيحي وحده من اعتنق العلمانية، بل إن العالم الإسلامي هو الآخر قد ثار على دولة الخلافة وتحرر من إمبراطورية الرجل المريض (العثمانية)، ناهيك عن أن الشعب التركي نفسه أسقط الدولة العثمانية وتبني العلمانية، لأنها هي وحدها الحل.. وهي تعني المواطنة والمساواة والديمقراطية معا.ولطالما اختلفت مع الباحثين والمفكرين الذين استخدموا مصطلح (صحيح الدين) الذي أفاض (فاروق القاضي) في استخدامه مزهوا بالإنجاز الفكري العقلاني التنويري لبعض أعظم علماء المسلمين الأجلاء، ولكنه تجاهل أن هؤلاء جميعا مهمشون حتى الآن من (الفارابي) (لابن رشد) ومن (الرازي) إلي (أبي العلاء)، وأن الموجة الظلامية التكفيرية الوهابية السائدة الآن تنهض علي الدين أيضا وترى أنه الصحيح وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - هو الذي قال (إن القرآن حمال أوجه) لذا أفضل دائما استخدام مصطلح الرؤية النقدية التاريخية للدين بديلا عن مفهوم صحيح الدين حمال الأوجه هذا، وهو المفهوم الذي دعا الباحث للقول عن وقائع وأحداث وأفكار أنها ليست من الإسلام في شيء بينما تدلنا النظرة العلمية الموضوعية المدققة أنها - للأسف الشديد - من الإسلام في أشياء.يحتاج هذا الكتاب المهم إلى أكثر من قراءة، وإلى عناية فائقة من قبل المنابر الثقافية المختلفة حتي لا يمر مرور الكرام لأنه سيكون أداة جبارة في المعركة الدائرة الآن بين العلمانية والدولة الدينية.
العلمانية هي الحل
نشر في: 9 إبريل, 2010: 04:34 م