قد يبدو الرسام البلجيكي بول ديلفو (١٨٩٧-١٩٩٤) أقل شهرة من مجايله وابن بلده رينيه ماغريت، لكنه بالتأكيد لا يقل عنه اهميةً، هو الذي لا يخلو أيَّ كتاب حول تاريخ الفن من أعماله، وهذا بالتأكيد مايريد قوله متحف (كنست هال) بمدينة روتردام، حيث يقيم له الآن معرضاً كبيراً ومهماً بعنوان (سيد الحلم)، والذي يضم تسعين عملاً من أعماله الخالدة، توزعت بين أعماله الزيتية ومائياته والعديد من التخطيطات.
ينتصب متحف (كنست هال) ذو الشكل المربع وسط المدينة، ويستقبل زائريه بإلتماعة تشبه إبتسامة حانية، تعكسها واجهته الزجاجية الواسعة التي تعتبر مثالاً جميلاً للعمارة الحديثة. والمعرض يقام بمناسبة مرور ٢٥ سنة على تأسيس المتحف، حيث أُستعيرَتْ الاعمال من بعض المتاحف وكذلك من مجاميع خاصة. فرصة نادرة لمشاهدة أعمال رسام الغموض الذي مزج بين السريالية والتعبيرية والرمزية، وتَنَقَّلَ بينها بمرونة كبيرة وهو يضع مفرداته التي احبها واصبحت جزءاً مهماً من حياته، مفرداته التي رسمها وأراها الآن تتوزع على قاعات المتحف وزواياه المضيئة. مناخات خاصة وتفاصيل لا تخطؤها العين مثل القطارات، المحطات، المسافرين،النساء العاريات، الأحلام، العزلة وكذلك الأسرار التي تبدو بعيدة المنال. هذه هي أجواء الرسام ومفرداته والمواضيع التي تستهويه.
فُتِنَ ديلفو منذ طفولته المبكرة بالقطارات والترامات والمحطات، وهذا الموضوع أثَّرَ عليه كثيراً ورسمه في لوحات عديدة فيما بعد. كما أن تأثره ببعض الفنانين الملهمين اعطاه حرية التنقل بين اساليب وتقنيات مختلفة، فبعد أن أُعجِبَ في شبابه بأعمال مودلياني ونسائه العاريات اللواتي حاكاهن على قماشاته الفتية وهو يعيش فترته البوهيمية وسط موديلات نسائية جميلة، تركَ هذا الاسلوب، ليتحوَّلَ إعجابه بعد سنوات لاحقة نحو أعمال جورجيو دي شيريكو الذي تعرف على أعماله أثناء رحلته الى ايطاليا، وهذا ما جعله يميل الى رسم بعض مشاهد العمارة الكلاسيكية بطريقة موحشة وميتافيزيقية. ليجد لنفسه فيما بعد طريقاً آخراً، طريق يؤدي الى أعمال جيمس انسور ويتأثر بالهياكل العظمية التي كان يرسمها، وهذا التأثير دَفَعَ بأعماله خطوة كبيرة للأمام، واصبح تأثير لوحاته قوياً وصادماً، فهو تعامل مع هذه الهياكل وكأنها موديلات حيَّة أو أظهرها بمظهر الاشخاص الذين يعرفهم ويعيش معهم، ومن هنا كانت الصدمة الكبيرة التي ولَّدَتها هذه الاعمال عند المشاهدين.
كان ديلفو يتجول بين أعمال الرسامين الذي يحبهم كما يتجول في حقل مليء بالزهور الجميلة المختلفة، يقطف واحدة من هنا، وأخرى من هناك، وثالثة من مكان آخر، ليصنع في النهاية باقة مدهشة من الزهور، باقة تُمَثِّلهُ وتمثل رؤيته وتقنيته وإبداعه. ورغم ان الكثير من الفنانين والنقاد يَعِدّونَهُ واحداً من أهم السرياليين البلجيكيين، إلا أنه لم يعتبر نفسه واحداً منهم، لأنه مضى في طريق لم يرد له تسمية معينة، ونجح بالفعل في إضفاء لمساته الشخصية واسلوبه المرهف واستطاع أن يعكس على قماشات الرسم روحه المليئة بالأسرار والحكايات الملغزة، كل ذلك قدمه بتقنية وضعته دون تردد في مصاف الفنانين الكبار. وهذا بالفعل ما نراه في لوحاته الآن، لوحاته ذات الاسلوب المسرحي، المدروسة بعناية فائقة والمرتبة للغاية من حيث التكوين والمعالجة.
إمتدت حياة ديلفو قرناً من الزمان تقريباً، قضاها في مرسمه وهو يسبر اغوار شخصياته الغريبة ويحاكي عزلتها بألوانه. وقد توقف نشاطه بعض الوقت أثناء الحرب العالمية الثانية بسبب النازيين، لكنه بعد الحرب كان مركزاً للإهتمام في كل العالم، وقد تسابقت المتاحف للاحتفاء بأعماله، ومُنِحَ العديد من الجوائز، كان آخرها جائزة الدولة البلجيكية.
سيد الحلم
[post-views]
نشر في: 8 ديسمبر, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...