أخشى أن تكون الثقافة العراقية أشبه بنفقٍ مظلم، لانهاية لعمقه، ولا رجعة لنور بدايته، ما إن نبدأ منه حتى نُغمر نسياناً، ونتألم وحدةً ونلوذ طموحاً بمصيرٍ مجهول، لنموت فُقراً، وأما نجد من يحمل جنائزنا ويبكي فوقها راثياً أو يُكفنُنا الصمت، "صمتهم، وصمت رحيلنا"..
فما يُعانيه نتاج المثقف العراقي، كاتباً أديباً فناناً بشتى أنواع الفن والادبيات، من تغييب لهوّ قاتل، رغم إن طموح هذه الفئة أكبر بكثير.
مشاكل كثيرة واجهت الثقافة والفنون، ولأني أحاول أن ابتعد عن خلط الأوراق ببعضها، ليأخذ كل مجال حقه من موضوعة النقاش، فقررت أن أتحدث عن المنجز الثقافي الورقي أدبياً، لأُسلط الضوء على كيفية تمكُن المُثقف من الترويج لمنجزه الثقافي والادبي، والترويج لذاته واسمه وشهرته، خصوصاً في هذا الصراع الذي يشهده جيلين ثقافيين أحدهما"السابق" يعتقد بأن الأجيال التي جاءت بعده ما هي إلا زيف ثقافة أو ضحك على الذقون، بينما يتخذ الجيل الحالي من المثقفين والكتاب على وجه الخصوص موقف الصمت والعمل.
تُرى أيّ من هذين الجيلين نجح في الترويج لمنجزه؟ أم إن الترويج مشكلة يُعاني منها الكُتّاب العرب برمتهم بسبب غياب ما يُعرف بـ"الوكيل الادبي" كما ذكرت القاصة والروائية ميسلون هادي ذاكرةً"أن الوكيل الادبي هو الشخص المعني بأمور النشر والتسويق والترويج للكتاب منذ كتابته حتى وصوله للقارئ، كما تأتي بعد هذا الوصول خطوات مهنية أخرى أصبحت ضرورة من ضرورات النجاح لأي عمل أدبي، ونظراً لغياب هذا العنصر التسويقي الفعال في عالمنا العربي، فجميع الخطوات عندنا غير احترافية تقع على عاتق الكاتب وحده."
عالمنا الضيّق الذي نعيشه، والذي تاه بين الرأسمالية فلم يخضع لقوانينها في العرض والطلب، وفقد ميزته الاشتراكية لأنه لم يحظ بدعمٍ من مؤسسات الدولة بمثل هكذا عالم تؤكد هادي "أن عملية النشر لاتخضع لشروط العرض والطلب، مما جعل الكتابة بالنسبة للكتاب العرب عبارة عن جهد فردي بحت يقوم به الكاتب بنفسه، منذ أول فكرة تطرأ على باله، وحتى صدور الكتاب وتمويله وإخراجه واختيار غلافه، بل أن الكاتب قد يضطر إلى أن يساهم في الترويج عنه في وسائل التواصل الإجتماعي، وذلك لغياب أية جهة تقوم بهذه المهمة،سواء من قبل ناشر الكتاب أو الوكيل الأدبي الذي بدونه لا يمكن للكاتب أن يشق طريقه نحو الشهرة والتألق في الغرب."
الترويج للكتاب والكاتب يمنح الاخير الجرأة للمغامرة بطباعة ما يتجاوز الألف نسخة من منجزه بآلاف، إلا أن هذه الروحية "المغامرة"تغيب عن أغلب المؤلفين العرب بإعتقادي لأن دور النشر تخشى أن لا تُباع هذه النُسخ بسبب ضعف الترويج للكاتب، وهنا تذكر هادي قائلة" أنا متأكدة أن أي كاتب ناجح في الوطن العربي يخجل أن يقول بأنه لا يطبع أكثر من ألف نسخة لكل كتاب جديد يصدر له، وهذا الرقم هو أقصى ما يمكن توزيعه للطبعة الواحدة، والتي إذا نفدت، فسيكون هناك طبعة جديدة بألف نسخة أخرى."
ورغم بؤس حالة الكتاب في وطننا العربي إلا أن اصحاب البصمات والتواقيع من الكُتاب يفرضون انفسهم ويحظون بالجهد النقدي والضوء الإعلامي الذي يستحقونه، إلا ان للانتشار أهميته التي لانغتني عنها، لتُشير ميسلون هادي أن"حاجة الكاتب لتصل رسالته الى الناس تكمن بإنتشار منجزه، واعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي (السوشال ميديا) قد ساهمت بشكل واضح في زيادة اهتمام الشباب بالقراءة." مؤكدة أن"الزمن أفضل النقاد، كما يقول طاغور، فإذا كان هذا الكاتب من الزائفين فلن يصمد طويلاً، أما إذا كان من المخلصين فسيمكث في الأرض."
واقعاً يجب أن تتواجد مؤسسات تعمل على الترويج للكاتب والمُثقف إلا أن هذا الأمر أصبح في خبر كان حيث يقول الشاعر صلاح حسن "في العراق يتحمل الشاعر الأعباء كلها من صدور كتابه والترويج له خصوصا وإنه يمنحه مجاناً وتلك مشكلة يجب أن تتوقف، إن الناشر لا يفكر بصناعة كاتب أو شاعر لأنه ما إن يستلم الاموال من الكاتب لا يعد يعنيه من أمر الكتاب شيء فقد وضع النقود في جيبه وانتهى الأمر."
أما عن كُتّاب من جيل الشاعر صلاح حسن فقد حرصوا على نشر اخبارهم في الصحف والمجلات الثقافية والترويج لمنجزهم بهذه الطريقة اضافة الى مواقع التواصل الاجتماعي الحالية وهذا ما أكده الشاعر قائلا" أنا شخصيا أقوم بنشر أخبار نتاجاتي في الصحف والمجلات عن أي كتاب جديد يصدر لي واظن إن الجميع في العراق يفعل ذلك."
إلا أن حسن يجد أن مواقع التواصل والسوشال ميديا والطرق الحديثة سهلت كثيراً الترويج بالنسبة لنتاجات الكُتاب الشباب ذاكراً "أنا اظن إن الجيل الحالي أفضل من جيلنا كثيرة لوجود صحف ومجلات وفضائيات كثيرة وهي نفسها تحتاج الى مثل هذه الاخبار بالاضافة الى سهولة النشر اليوم ووجود الانترنيت أيضا ومواقع التواصل الاجتماعي والمكتبات المتخصصة بنقل الكتب."
التسويق للمبدع عمل تجاري، يخرج عن نطاق عمل المبدع، الشاعرعمر السراي يشير إلى"أن عملية التسويق من مهام المؤسسات المتخصصة ."
أما في حال الحديث عن مشاريع التسويق الفردية يذكر السراي قائلاً " هنا سنمر على القنوات الفضائية، والفيس بوك والمواقع الانترنيتية، فهذه الأمور من المتاحات للمبدع حالياً، إلا إنها خاضعة للاختيار واقتناص الفرصة، والتمويل عادة. واظن بأن الوسيلة المثلى حاليا للترويج للإبداع تكمن في سبر غور مواقع الانترنت، كونها المجال الأفضل حاليا للمتابعة."
ورغم أن السراي يجد أن مواقع التواصل ووسائل الإعلام الكثيرة مُساهمة بالترويج إلا انه يجد أنها "وجهت المتلقي نحو التشظي والانشغال بكل شيء، أما في السابق فكان الوصول أسهل إلى المتلقي لأن هذه الوسائل كانت أقل وجمهور المتابعين آنذاك كان بكراً ومُتهيئأ لكل ما هو جديد ومؤثر."
إلا ان السراي يجد أن الابداع لن يتخذ موقعاً مميزاً في الرواج إلا حين يفكر بلغة الواقع قائلا أن" الواقع الذي يسير تجاريا، حيث لن يصمد أمام الزمن سوى الأنواع القابلة بالاندماج بما يجذب الجمهور اليوم، وأقصد اندماج الانواع الكلاسيكية من الابداع بالانواع التي مازالت فاعلة مثل السينما والموسيقى والغناء."
"لا شك في إن وسائل التواصل الاجتماعي هي المنصة الأهم للتسويق حاليا، لكن الاعتماد الكلي عليها من دون سياسة صحيحة وبناء قاعدة رصينة لن يكون مجدياً" هكذا يحسم الكاتب رسلي المالكي موضوعة النقاش حول امكانية التسويق فهو يجد أن"هناك العديد من الناشرين الذين عولوا على وسائل التواصل وحدها وفشلوا، والسبب هو أن محتوى نتاجهم الادبي ركيك، لذلك فاستخدام فيسبوك مثلا للترويج للكتاب سرعان ما ينقلب عكسيا عندما يبدأ القراء بنقد الكتاب واظهار ركّته، وهذا سيؤثر سلباً على الكاتب، رغم انه قد يساعد في بيع المزيد من النسخ التي تشترى لغرض اشباع الفضول لا أكثر."
في حال استخدم الناشر مواقع التواصل الاجتماعي للترويج لمنجزه إلا أن إسلوب تعاطيه مع الجمهور عبر هذه المواقع كان مُعيبا فلن ينل من الشهرة بذلك ما يستحق وهذا ما أشار إليه المالكي كسبب آخر للفشل بعملية التسويق للمنجز الادبي، مؤكداً"حين يكون محتوى الكتاب "الرائع" يتعارض كلياً مع إسلوب الناشر-الذي قد يكون بائساً- العام على وسائل التواصل، فيسبب نفور القراء من هكذا ناشر، ليكون أحد أسباب الفشل بالترويج للمنجز."
إذاً لشخصية الكاتب المعروف بها وثقافته العامة واسلوب تعاطيه مع قراءه سواء على مواقع التواصل أو وسائل الاعلام الاخرى أو على أرض الواقع لها الأثر الكبير في خلق جمهور يساهم لاحقاً في نشر أخبار كتبه عن طريق تبادل المعلومات عن الكتاب ونصح القُراء باقتناءه.
ميل الجيل السابق من الكُتاب إلى اتخاذهم النخب الثقافية كهدف من كتاباتهم ادى إلى ضعف تسويق منجزهم الثقافي، ويذكر المالكي بهذا الصدد إن "الكتاب القدماء لديهم مشكلة التخندق النخبوي، أي إنهم أحيانا يكتبون لنخبة معينة من المجتمع ممن هم من عمرهم أو عاشوا ذات تجربتهم، ويرفضون التجديد، لذلك لا تجد من الشباب من يقرأ لهم إلا القليل." مؤكدً"أن من الاسباب الاخرى هو إمساك الشباب لطرفي الاعلام الحالي في وقت يرفض فيه الكاتب القديم أو الرائد الظهور للاعلام أو لأنه لايُجيد استخدام مواقع التواصل الاجتماعي هذه قد تكون مسببات إضافية لعدم الترويج لفئة الجيل الذي سبقنا من المثقفين والكتاب."
ميل الجيل الحديث من الكُتاب لتوثيق التاريخ وأحداثه، كانت فرصة أكبر لترويج منجزهم كما أكدت الكاتبة الشابة جمانة ممتاز ذاكرةً "إن الحديث عن هذه الحقبة مع الالتزام بقواعد الكتابة ورصانة الاسلوب باتت إحدى مسببات ميل القارئ لانتقاء الكتاب."
وذكرت جمانة التي ترفض أن يُطلق على الحراك الثقافي الخاص بها على أقل تقدير مصطلح "المنافسة" لأنها تحاول أن تُقدم ما تحب فقط، أن "عملية التسويق اليوم باتت أكثر صعوبة لأن الفضاء مفتوح والسوق أصبح كبيراً جداً وهو متاح للجميع لهذا فالتحدي بات صعباً جداً." مؤكدةً إن" الخصوصية والتميز بالاداء هي من تحفظ للكاتب وتضمن له تسويقه لنفسه بشكل جيد، التميز بأسلوب الكتابة والخصوصية هي بصمة الكاتب والتي هي أسلوبه أيضا فضلاً عن امكانية الاقناع ولا ننسى إن المنصة التي تتيحها مواقع التواصل الاجتماعي منصة ممتازة للتسويق."