TOP

جريدة المدى > عام > ألعب في الحديقة، وأفكر.. الذات المصعوقة بمفارقات الوجود

ألعب في الحديقة، وأفكر.. الذات المصعوقة بمفارقات الوجود

نشر في: 7 ديسمبر, 2017: 12:01 ص

أول ما أثارني، وزاد من فضولي عنوان الديوان، فقد استند على جملتين فعليتين وقد جرت العادة لأغلب الشعراء أن تكون عناوين دواوينهم ، جملة او جملاً اسمية، وسرعان ما اكتشفت هناك قصدية في هذا الاختيار تبدى لي وكأنه خيطاً يلظم سيماءات نصوصه الشعرية في دلالة/ الجملة الفعلية تتخطى ملفوظها الكلامي نحو كنهها الفني والجمالي/ سردية شعرية تدلل على الحركة والتوتر والاضطراب وكأن الشاعر أراد تلخيص إيقاعات الفعل الشعري المتواتر مع بناء القصائد في مفهومين متعارضين / ألعب في الحديقة مفهوم طفولي وأفكر مفهوم ناضج وفي نفس الوقت عكس إيحاءات نفسية متشظية بين الماضي والآني .
المفردات التي استخدمها الشاعر ، ناتئة ورمادية وحادة لا تزويق لفظياً يتشرب في النصوص ولا توصيفاً للمشهد المترائي بل شحنات ألم مكثفة احجبت عن تشظي الصورة بمتاهات التوقف والاسترسال بل أختار سردية المعنى في بنوية لغوية مكثفة كما نراه في قصيدته " كآبة بغداد" : حيث خرجت/ نسيت رائحتي في غرفتها/ وتركت- سهوا- أصابعي في السرير تفتش / عن ملح جسدها على الفراش/ لكنني أشمها الآن ../ هذه كآبة بغداد تلوح لي من بعيد..ص ٤٧
هنا يلاحظ تمازج متوتر في انزياح داخلي روحي متضارب بين التعلق / أشمها الآن والعالم الخارجي الساكن الرمادي في استثمار خصائص الإيحاء وهي الرائحة فترفع المعنى الى رؤيا وتضمر توقاً منكسراً في التفتيش عن تلك الرائحة التي غابت! / كآبة بغداد في جزيئات الرائحة والفراش والأصابع ، إنها لوحة الذاكرة وخفوت العلاقة الحقيقية مع المكان. هذا توصيف بالغ الدلالة والتمعن في كثافة الاصطدام بواقع يثير الحزن حد الكآبة / مثل ما نفقد شيئا عزيزا ولم يبق منه سوى رائحته !.وكأن البداية تتولد من رحم النهاية، كالصمت يحدث ضجيجاً، الحياة تخالط روائح الموت، الحاضر يستنجد بقوة بالماضي في جسد وثياب تشريح القصيدة بأدوات حسية/ الشم والأصابع أشبه بنزوة للكشف والظهور في بنيان الصورة الشعرية.
وفي قصيدته الرئيسية التي حملت عنوان الديوان. (ألعب في الحديقة، وأفكر)، هناك أسئلة وجودية مبعثها ذاته وألمه الخاص تعكس قدرته الاستثنائية الرهيفة على إلتقاط صور مبعثرة ولكن بحنين ذلك الغائب الذي يحاول عبثا أحياه كما نراها في هذا المقطع من قصيدة العب في الحديقة وأفكر :
لماذا يشعر / كل من ينظر إليَّ./ إنه يحدق في هاوية؟ / ماذا حدث لهذا المكان ../ قبل أن يهبط الغروب المذهّب على قباب بغداد؟
وانا ألعب في ممر الحديقة، وأفكر:
أهكذا ينهمر الذباب، فوقنا/ بصيف هائل وفسيح/ يبلل حياتنا اليابسة، باللزوجة / ويبقعُ أسيجة الدور المتآكلة ..؟ ص ٧٩
تصدع وجودي يعمد الشاعر الى استعادة أجواء الماضي / قباب بغداد المذهبة ولكن سرعان ما تكشف إشارات تمضي نحو الشرخ والجدب/ ينهمر الذباب فوقنا وكأنه ارتطام في مجاز سلبي يلبي مستلزمات الصورة الشعرية في تناقضها الداخلي ولكن المتألق في تشفير لغوي / عمق المعنى الصيف الهائل الفسيح ليوقظ فينا إحساس أبعد من المحسوس نحو استعادة لحظة مستغرقة في تنامي ألم متجدد. ليصل الى ذروة السرد الشعري المليء بروائح أمكنة اثيرة / الزمن والذاكرة يندمجان في بعضهما البعض في حضور المكان / الشوارع ومناخاتها وروائحها وأبنائها ورمزيتها في طقوسها وملامحها كما في هذا المقطع :
ولأني أعرف بغداد وقبابها جيداً/ أعرف ضعفها، وذهبها/ بريقها وخفوتها/ مآتمها وأعراسها../ جواربها، وكلسوناتها../ قطاعاتها وحماماتها../ مجانينها وسياسييها.. / تجارها، وشطارها.. /أصابع قدميها، ومآذانها../ قباقيبها، وشورجتها، حلوياتها وبهاراتها،
صرائفها، وفتنها/ أزقتها، وجسورها وشعراءها . ص ٨٤-٨٥
كل اسم هو مفهوم في معنى جديد بالصلة، لنداء وعي الذات بالتاريخ وكأن تكرار الأسماء لا يتوقف متدفق في سرد يتنامى من اجل انعاش الذاكرة لمقاومة حالة العدم والجدب التي تلف رسم اللوحة الشعرية.
وكأنه يعيش حالة تلذذ طفولي في ذاكرة قد انتعشت في استقدام التاريخ لمدينة بغداد بكل عنفوانها / الحبيبة الأثيرة، حينما يصل الى غوص أعمق وينادم ذلك الغائب ليقول له لم انسىاها فهي تحت جلدي فينادم نفسه بها.
ليصل الى منحى إغلاق الفكرة عبر رمزية الخروج من الحديقة وكأنه يختزل تكثيف حضور الماضي القابع في حديقته نحو مستفزات العقل وهكذا فهو يعوم مجدداً في مشاعره المتصارعة مع العالم الخارجي / رحم نهايات الألم في زمن دائري لا انفكاك في تداخله بين عالم روحي متضارب وواقع خارجي ساكن ورمادي ليواجه ذاته لمخاطبتها( سيعرف ذلك كله حينما يغلق باب الحديقة) بين الفلاش باك في عالم جزيئات النصوص بتجلي متجدد باسترداد عقلانية ولكن في معنى مبطن .
وأراد الشاعر في نهاية الديوان المتضمن ثمانية عشر قصيدة ، بخاتمة ابتهالية صوفية في قصيدة/ الهي/، التجرد من جراح الارض ليتوجه الى السماء- والطفل في داخله يستغيث زمنا، عبر ايقاع متصاعد في بناء القصيدة، و لا زالت سماء بغداد صافية وممتدة كما عهدها... كان العالم يلتحم مع ذاته.
ردّني الهي طفولتي/ أعدني صغيرا لأحدق في السماء/ لأراك بلحيتك البيضاء مثل جدي/ ووجهك العريض مثل خالتي/ دعني، ولو مرة واحدة ، أرى الخراف والرعاة/ والطيور المهاجرة في السماء/ أعدني يا أبي لطفولتي. ص ١١١

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الفياض: الحديث بالخفاء ضد الحشد "خيانة"

العراق يعلن انحسار الإصابات بالحمى القلاعية

موجة باردة تجتاح أجواء العراق

بينهم عراقيون.. فرار 5 دواعش من مخيم الهول

هزة أرضية ثانية تضرب واسط

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram