لاشك إن الأدب ذا ارتباط وثيق بالأفكار السائدة في كل عصر وزمان ، كون الفكر عنصراً من عناصر الأدب ، وفي ظل تعدد الافكار والمعتقدات في وقتنا الراهن بات كل أديب يعبر عن تلك الافكار السائدة في المجتمع على وفق منظوره الخاص لمفاهيم ذلك الفكر . لا شرط فكر يتبناه هو بل يعبر عن أفكار سادت في الحاضر .
العمل الادبي يكتسب القوة والأصالة والابداع من قوة الأفكار والثوب الذي نُسجت فيه ، أي البراعة في الصياغة الفنية مستفيداً من عالم الميتافيزيقيا الذي استقطب القارئ و المشاهد بقوة ، إذ التعبير المجرد عن تلك المفاهيم التي لها من السيادة والدور الفاعل يجعل العمل الأدبي مجرد نظم اجتهد الاديب في سبك أحداثه .
والساحة العالمية اليوم تشهد تغلغل الفكر الداعشي بأشكال وأنواع عدة تحمل جميعها مفاهيم جرثومية تجريمية أصبح العالم على رؤى تامة بافعالها الشنيعة الجشعة ، وكانت بقعة صغيرة من العراق قد كشفت عرى تلك المنظمة من أول ارهاصاتها في صحراء العراق ، والآن بعد سحقها ، بقيت آثارها التدميرية شاهداً عليها عبر المسرح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بل وحتى الأدبي بوصف الادب سجلاً تاريخياً . إذ اتجه الأدب في الآونة الاخيرة بشطريه الشعري والروائي يهتم بتصوير تلك الأفكار لا لمجرد نقل وتصوير مأساة بل تصوير تجارب حقيقية كانت أرض العراق مسرحاً لها .
رواية (موعدٌ في الصحراء) للروائي العراقي فاضل عباس الصادرة عن دار المعارف 2015 من الأعمال الروائية التي بشرت بنصر كبير وحياة طيبة بنهاية داعش . صوّرت الرواية ببراعة وجرأة كبيرتين تلك المأساة الداعشية منذ تغلغلها الأول في صحراء العراق واشتغالها بالتفجير والقتل الممنهج ثم مرحلة غسل وتجميد العقل الواهن وصولاً الى مرحلة الأمل والانتصار التي شهدتها الاراضي المحررة فيما بعد . فـالرواية تجمع فكرتين الأولى تسلسل بدايات ذلك التنظيم وكيف قام ؟ وماهي الدعائم التي اتخذها ميداناً لتعزيز وجوده وتقدمه في المنطقة : (توقفت العربتان في مضارب منقطعة عن الحياة وسط الصحراء ، وسمع صوت رصاصٍ كثيفٍ وأهازيج وتكبير، وتكاثرَ الصوت المقترب من سيارة الحمل. بارككم الله، حياكم الله ، صيدٌ ثمينٌ... قال احدهم وهو يربت على ظهر البدين...) ص14 . إنها الصحراء الميدان والملاذ الآمن لهم ، وخطف المسافرين الى سوريا كان لهم ميداناً آخر ،فهم ينزلون المسافرين ويطيحون برقابهم بالسيوف إن لم يؤمنوا بفكرهم ،وقبل السيف هناك عقولهم المبرمجة على الكراهية و بجرعة من الأدوية المخدرة : (ارسل الأمير لكم هذا وعليكم أن تشربوه، كل واحدٍ جرعتين...) ص21 ، أما النساء المحتجزات فكان جزاءهن الاغتصاب والذبح ، وهم يجندون لتفجير أرواحهم فداء للأمير وليحظوا بحوريات الجنة الموعودة لهم لا من دين محمد بل من دين أميرهم .
والفكرة الأخرى هي الأمل الذي رسمه أيوب بطل الرواية في نفس القارئ ، الأمل الذي تكلل بهزيمة الأوغاد حين استغل ذكاءه ليراوغ عقولهم بأنه واحدٌ منهم حتى ارتموا تحت سلاحهم راجين عطفه، عطف العراق حين جسد أيوب انتصارات العراقي بأمله وصبره حين : (رمى السيجارة بجمرها نحو الأمير فكانت لحظة العشق التي مزقت الوحش البشري حين التقت الجمرة ببخار البنزين المتطاير، وأحدث اللقاء شبه الانفجار ... قام الأمير من مكانه وهو محشور في النار ، اسرع نحو ايوب وهو يصرخ) ص 268
لغة الموت والتفكير بالخلاص بطريقة ذكية دقيقة التنفيذ هي الدارجة بصمت في حديث الراوي ، وكانت محط استقطاب ذهن القارئ اذ استغل الراوي الوحدة المكانية ذات الفضاء الواسع ، وانغلاقية التفكير لا شيء فيه يخفي أيوب في عُري الصحراء ، ولا فكرة تنجح معه وهو في حجرة ضيقة : ( تتشابك الأحزان ، تدمى الخواطر ، تُحار الأفكار، في مخيلة أيوب :
هل حقاً كل هذا يجري على كوكب الارض ؟ هل هذه عدالة السماء ، أم طغيان البشر؟ ) ص207
ولكن لابد من التشبث بالأمل الذي منحه الله له عندما اتفق مع الخاطفين وخدعهم بالعودة المشروطة. لم توقفه فجيعة أمه من التفكير في خلاص نفسه لا بل تخليص الوطن بأجمعه مستغلاً ثقة الأمير له بحمله السلاح ، فاستعان بجاره ليتعلم استعمال السلاح على أحسن وجه : ( أرجوك يا عم أعطني بعض المعلومات التي احتاجها مع رجائي أن لا تسألني لِمَ احتاجها ...في السلاح الرشاش عليك رفع الغطاء العلوي بعد دفع كبسةٍ تقع خلفه ، ومن ثم تسحب القطعة الجانبية المربوطة بحديدة رفيعة طويلة مغلفة بحلزون حديدي وتنظر في نهايتها حيث تكون إبرة الإطلاق بارزة على وسادة في اخر الحديدة فلو كانت مكسورة او غير موجودة فلن تنطلق الرصاصة بعد تجهيزها والضغط على لسان الاطلاق هذا اهم شيء...) ص 240-241
إنها بداية الأمل في الخلاص الأبدي من براثن الوجع والموت الدامي ، أيوب يناجي أمه التي رحلت قبل عودته: ( ...أماه ياروح الروح ...ياقطعة الفؤاد ... استعجلتِ الرحيلَ أم تأخرتُ في المجيء) ص206 .ولكنه يحوّل المناجاة إلى عرس تزغرد فيه الأم العراقية بعد عودة جنديها من ساحة المعركة منتصراً .
خسارته للأم التي قتلها هاجس الخوف على وحيدها ، والحبيبة التي طال انتظارها حتى زفت يوم رجوع أيوب المؤقت عروسا لغيره ، عوضت بـ وجه جميل من الشباك يبرز له بصوت عذبٍ : ( الصينية حاضرة حبيبي... مع خضرة الريحان) ص 269 . فهناك دائما امرأة محبة مساندة. انها تراجيديا الواقع المرير والأمل الجميل والتضحية الجليلة.
الرواية العراقية كانت سباقة في تصوير الحقائق والمجازر التي ارتكبها الداعشيون، وهذا يلقي على عاتق الدراما العراقية النائمة تصوير تلك الاعمال لجودتها ورصانتها كمسلسل درامي ، فما مسلسل غرابيب سود الا جزء يسير من الحقيقة الداعشية التي ننتظر سبر أعماقها وبيان مجازرها للغافلين عن الوجع العراقي.والمهمة ذاتها ملقاة على النقد العراقي الذي عليه أن يواكب المدونة العراقية التي سطرت ما فعله الارهابيون بجسد هذا البلد الكريم وبشعبه. وهذه الرواية تضاف الى الروايات والاعمال الادبية العراقية التي كتبت بنكهة خاصة تنبع من ينابيع الألم والبطولة والأمل في مواجهة القبح والخراب.