تهاني فجر"....خاصرتي مفتّتة في التراب الذي أضعت فيه خاتمك الزّهريّ/ خاتمك الذي منحك ذكورة وأنوثة...."./هذه هي الفكرة الشجاعة والجريئة التي قامت عليها مجموعة الشاعر شاكر لعيبي "عزلة الحمل في برجه"(دار النّهضة العربية- بيروت)،
فكرة أن يكون الشاعر ذكرا وأنثى في الوقت ذاته وقد استطاع لعيبي أن يحقّق معادلة صعبة للغاية في التعبير بلسان الأنثى والتوغل في طرح أكثر مواضيعها خصوصية وحميمة./فقد قفز لعيبي فوق ذكورته وأربكها وفضّ بكارة المكبوت والمحرّم بأكثر الأمور التصاقاً بالجسد البشري والذي يُعد منطقا طبيعيا من مناطقها، من خلال نصوص مفتوحة على كل الإحتمالات غير الخفرة وتحاكي ما هو حسّي بعمق ناضج وبحساسية شديدة الرقي، دون أن يلتفت شاعرها إلى نظرة المجتمع حينما يصرّح وبشكل جريء وجلي وبلسان أنثى عن الحاجات والرغبات الحسيّة والمساحات الحميمة التي تقود إلى كشف الهوّة الحقيقية التي يعيشها الإنسان في ظل الخيبات على جميع الصعد./"(...) انتصف النهار ومازلت واقفا على الباب المائي سريع/ العطب/انتصف منّي سريعا قبل أن أبلغ سن الحكمة...."./هنا أراد لعيبي تدوين الشغف في أدق الحقائق البيولوجية للأنثى دون إغفال الجانب الروحي، وقد احتاج الشاعر هنا فقط إلى استحضار أنثاه التي تكمن بداخله وأصغى إليها بل وجعل صوتها مسموعا وهنا تكمن شجاعة لعيبي، إذ يغيّب كثير من الرجال تلك الأنثى التي تنزوي في دواخلهم، ومحاولاتهم الدائمة لإسكات صوتها عبر مصادرته لصالح الذكورة الخالصة، شاكر لعيبي سمح (لأنثويته) أن تخرج من عزلتها لتتنفّس وتعبّر عن واقعها.وأعتقد أنّه أراد ذلك لا لابتداع أسلوب جديد في الشعر فقط، أو لإضافة فرادة تُضاف إلى مشروعه الشعري الزاخر وحسب، بل ليبرهن على أنّ (المكبوت والمحرّم) لا يبقى كذلك إذا ما طُرح بأسلوب إبداعي راقٍ، وأيضاً ربّما ليحفّز الشاعرات العربيات ربّما على كتابة ما هو فطري وغريزي في أجسادهن من خلال ما استحدثه لعيبي من حوار في مجموعته بين رجل وامرأة بلسان شخص واحد (لسان الشاعر). وتعد مجموعة "عزلة الحمل..." استكمالا لمشروع لعيبي الشعري الإيروتيكي الذي بدأه في منتصف السبعينيات إلى أن وصل نضوجا إلى هذه المجموعة التي يمكن اعتبارها (مجموعة إيروتيكية) بامتياز، تتكئ على الإشارة والتصريح لكل ما هو حسّي وخاص دون الإغفال عن دمجه بالروح التي لا تنفصل عنه أبداً.ولكن بالنّظر إلى تجربة لعيبي الإيروتيكية نجد أنّه من الشّعراء المناضلين الذين لم يتخلو عن أفكارهم بل دافعوا عنها بكل ضراوة على الرّغم من مرور الزّمن والأصوات العالية المعارضة لمثل هذه المواضيع التي يعتبرونها من المحرّمات!لقد أراد شاكر لعيبي من إيروتيكية هذه المجموعة أن يخبر عن عمق الخيبات التي يعيشها الإنسان في الوقت الرّاهن، واتصال تلك الخيبات بالشغف غير المتناهي بالحياة والعالم، والتأمل بما فيه من خلال الولوج للعالم الداخلي الإنساني أن نرى الحياة كما هي أو بشكل مغاير.وقد انهمك الشاعر بصنع لغة حسيّة ليعلن عن شأن محض حسّي له علاقة بالواقع أيضاً، إذ ينتصر للأنثىولحاجاتها الجنسية عبر مطالبها الغريزية والفطرية، والتصريحات الحسيّة المعلنة بلسان الأنثى هي باعتقادي أهم ما خرجت به "عزلة الحمل في برجه"."(...) قل كلمة قرب قرطي / فلتكن إذن من الغلاة المحاربين من أجلي / لتكن نواة من نويّات البشارة التي لن تبقي ولن تذر / لتكن سائلاً مخدّرا ضارباً في أقاصي جسدي...."./كما يمكننا أن نعتبر "عزلة الحمل..." عملية مقاربة بين التصوف وبين الإيروتيكية بوصفهما تجلّيا روحيا من خلال الجسد، فعند المتصوفة هو تجلّ للوصول إلى غاية الغايات التي هي انعدام كل ما يحول بين المتصوف وبين الله، من خلال صرف كل عضو من أعضاء الجسد للوصول إلى السّمو الروحي الأعلى، لذلك ينفصل المتصوف تماماً عن (الكونية) إن صحّ التعبير، أما عند الايروتيكية التي يستخدمها لعيبي هنا هي مناجاة جسدية للإتحاد مع الآخر روحيّا وجسديّا للوصول إلى العزلة الأسمى."(...) لم تكن الصيرورة ولم يك العدم / إلاّ قرب الخيمة التي تواقعنا فيها بضراوة /تحت جثّة النجمة الميتة..."./ثمّة ما يستحضر اندهاشك وإعجابك في الوقت نفسه في قراءتك لـ"عزلة الحمل..." وهو ما ابتدعه شاكر لعيبي من أسلوب في صياغة النص الذي يمكننا إعطاءه مسمّى (النّص التصاعدي التنازلي) والذي جاء في الحوارات (57-58 و 59-60 و 61-62)، وإعطاءه صفة المرونة حيث أنّه يكتب النّص ثمّ يعيد كتابته من جديد بشكل تصاعدي مبتدئا من النهاية وصولاً إلى البداية مع الحفاظ التام لبنية التعبير وثبات المعنى (المعنى يأخذ اتجاهين بحسب الحوار، اتجاه ذكوري وآخر أنثوي ولكن بانسجام واحد).وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشاعر استطاع أن يحافظ على الاتساق في تركيب النص تنازليّاً ومن ثمّ تصاعديّا دون أن يُثقل كاهل النّص ببنية مفروضة، وإنّما جاء النص في الحالتين ببنية سياقية سلسة وغير معقّدة.بل إنّ تكرار النّص تصاعديّاً لا يسقط عنه الدهشة بل يزيد الذّهول في صياغة نص تحمل صوره و
"عزلة الحمل فـي برجه".. الإصــغـــاء إلــى الأنـــوثـــــة
نشر في: 12 إبريل, 2010: 04:57 م