لم يدر بخلد الفتاة الهولندية مارغريتا، ابنة صاحب المتجر بمدينة ليواردن، بأنها ستصبح اسطورة وحكايتها تملأ الافق، ولم يتخيل احد بأن الكثير من الرجال المرموقين وأصحاب النفوذ سيتاقتلون في سبيل الارتماء تحت اقدامها، آملين الصعود قليلاً للوصول الى احضانها الدافئة. هؤلاء الرجال هُمْ ذاتهم الذين إرتعبوا واستشاطوا غضباً او ربما خوفاً من هول المفاجئة، حين علموا فيما بعد بأنها كانت اكبر جاسوسة عرفها القرن العشرين. نعم هكذا كانت الحكاية التي غلفت حياة الراقصة الشهيرة التي عُرِفَِتْ بأسم ماتا هاري، وهو الاسم الذي اختارته لنفسها بعد ان عاشت فترة من الوقت في جزيرة يافا الاندونيسية، وهو يعني بلغة أهل الجزيرة (عين الفجر). سيرتها كانت مليئة بالبذخ وصورها تتصدر الصحف والمجلات، يحيطهاالذهب والمخمل والعطور والأموال الطائلة، كل هذا ممزوجاً بسطوة كبيرة وجمال أخّاذ.
وسط هذه الحياة بالغة الترف، لم تتوقع ماتا هاري مصيرها المفاجيء سنة ١٩١٧ وهي تجلس في جناحها الفاخر في فندق ريتز الشهير في مدريد، ولم تدرك أن الفطور التي أوصتْ عليه قبل لحظات كان فطورها الأخير، حيث دخلت عليها الشرطة الاسبانية وإقتادتها بتهمة التجسس للألمان، لينفذوا فيها حكم الأعدام مباشرة بعد ان اعترفت، وذكرت بأنها كانت بحاجة الى النقود التي أقَرَّتْ بأنها إستلمتها من الألمان بالفعل، لكنها أكَدَتْ عدم قيامها بتقديم أيَّة معلومات لهم. لتقف في اليوم ذاته منتصبة امام البنادق المُعَبَئَة بالرصاص، بعد أن رفضت أن يُغطى وجهها بالكيس الأسود.
هاهي مائة سنة تمضي على هذا الحدث، وهاهو متحف فرسيلاند في مدينة ليواردن يقيم معرضاً استثنائياً بهذه المناسبة ويعيد التعريف بتفاصيل حياة اسطورة الجمال والرقص والجاسوسية. معرض كبير ومنظم بشكل مدهش، حيث تَدَلَّتْ قطع الأقمشة الملونة الشفافة من سقوف المتحف لتتحرك بإيقاعات مناسبة للعرض، بينما ملأت صور ماتا هاري كل مكان، ووزعت على مناضد صغيرة ذات اضاءة خاصة المئات من رسائلها التي كتبتها بخط يدها،. كذلك قطع من ملابس رقصها واكسسواراتها والكثير من التفاصيل المتعلقة بها وبرقصها وحياتها، ليقدم لنا المتحف حكاية امرأة فريدة سواء كانت في زمانها او عند إستحضارها اليوم عبر هذا المعرض.
هذه النجمة التي أفلت عند موتها القاسي، عادت بعد ١٤ سنة من قتلها، للسطوع من جديد من خلال فيلم حمل عنوان (ماتا هاري) سنة ١٩٣١ وقد مثلت شخصيتها في الفيلم الممثلة العظيمة غريتا غابو. كذلك قَدَّمَتْ فرقة الباليه الوطني الهولندي عملاً عن حياتها، لتظهر بعد ذلك العديد من الافلام والمسرحيات الموسيقية التي تناولت سيرتها، في امريكا وهولندا وايطاليا وغيرها الكثير من البلدان، وكذلك صدرت الكثير من الكتب التي تناولت حياتها المثيرة، ومن بينها الكتاب الذي كتبه ابوها عنها وتحدث فيه عن نجاحها وإخفاقها.
تجولت في المعرض وانا أشم عطر امرأة بعيدة، فاتنة، وتقطر غواية. امرأة كان حضورها آسراً، وغيابها مربكاً، وإستحضارها بعد قرن من الزمان لا يقلُّ هيبة وسحراً عن رقصاتها التي كانت رؤوس الرجال تستدير مع إيقاعاتها، لتتحول في النهاية الى طيفٍ ملونٍ بالغموض والسحر والعظمة.
أصل الى الجانب الاخير من المعرض حيث عُلِقَتْ العشرات من افيشات السينما واعلانات المسارح التي تناولت سيرتها واعادتها للضوء. لأنهي جولتي أمام البورتريت الكبير الذي رسمه لها الفنان إزرايلز الذي يُعَدُ اعظم فناني مدرسة لاهاي في الرسم، حيث إلتقاها الفنان العظيم ورسمها قبل أن تلاقي مصيرها المحتوم بسنتين، ليغيب جسدها وتبقى ذكراها الى الأبد.
خرجت من المتحف ومررت بجانب البيت الذي وُلِدَتْ فيه ماتا هاري، صوَّرتُ واجهة البيت قبل أن أُمَّسِدُ بيدي على وجه التمثال البرونزي الذي نُصِبَ قبل أيام قرب بيتها إحياءً لذكراها.
عين الفجر
[post-views]
نشر في: 1 ديسمبر, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...