ما نفعله في توثيق بعض الأمكنة، هو ذاته الذي فعله المهندس المعماري، ومصمم أشهر المباني في بغداد، رفعة الجادرجي مع نصب الجندي المجهول، لحظة هدمه من قبل بلدية النظام السابق، حين حمل كامرته وراح يلتقط الصور مع سائق الرافعة التي أزالت النصب، هي لحظة صادقة جدا، لكنها صادمة أيضاً.
ها، نحن نشترك مع الجاردجي، الذي امتد به العمر فشهد قيامة المدينة وتحولها وما كانت عليه من رفعة وجمال وزهو، أقول: ها، نحن نشهد الانهيار كله، وكنا قد شهدنا ما تبقى من الرفعة تلك والجمال والزهو، وكأننا نلتقي معاً في اللحظتين، القيامة والانهيار، كأن البلاد وجدت لتكون متوالية انهيارات الى الأبد، حتى بتنا نشكك في الروايات التي تقول بأن بلاد الرافدين لم تحفظ آثارها لأنَّ أرضها طينية مائية، وها نحن نشهد سقوط الحجر والحديد والنخل والإنسان ونفقد معه الارض والماء والانتماء. يا لهذه البلاد التي لم تحفظ لنا شيئاً.
كلُّ ما يعاني منه شارع الرشيد من أهمال سببه اسمه، وكذلك الحال مع شارع ابي نؤاس، وحين علمت بأن حكومة البصرة المحلية رفضت تسمية شارع الثقافة في البصرة بشارع الجاحظ لأنه(ناصبيّ) ضحكت. وهو البصري، المولود والمتوفى فيها وهو المعتزلي، صاحب الفرقة الجاحظية المعروفة، وضحكت أكثر حين سمعت بانهم فضلوا تسميته بشارع الفراهيدي، المولود في عُمان والمتوفى في البصرة، لكنهم، لم يعلموا أنه كان على مذهب أهل السنة والجماعة، ومعلوم إن المعتزلة كانوا الاقرب الى التشيع منه الى غيره، فقد كان ابن ابي الحديد، شارح نهج البلاغة معتزلياً.
ما كنت أود الخوض في مسألة كهذه، لكنني أردت الاشارة الى غباء المؤسسة القائمة لدينا، فهي تقذف بالحجر فلا يصيب عصفوراً. كان الطريق بين مركز مدينة البصرة وقضاء ابي الخصيب واحداً من أجمل الطرق في العالم، نعم، في العالم، لأنه الطريق الوحيد المظلل بالنخل والفاكهة، ولا تدخله الشمس إلا في غفلة منه، ويزيد طوله عن 20 كلم، هذا الذي ظلَّ قائما حتى مطلع السبعينيات، وهو جادة سياحية بامتياز، كانت محط اعتزاز الناس الذين مروا بها، اليوم تعمل حكومة البصرة على توسعته، بعد أن أصبح شارعا تجارياً، فقد جُرّف النخل وهلكت الأشجار واستباحته الشمس.
أزور صديقي الشاعر عمار المسعودي في ناحية الحسينية، بكربلاء وأسلك طريقا من النخل ضيقاً، يذكرني بالطريق التي كنت أسلكها الى بيتنا في ابي الخصيب، لكنني أفاجأ بأن الجرافات تقترب من بيتهم، فبلدية كربلاء أطلقت العنان لها، وها هو الطريق المظلل بالنخل، الجميل ذاك، يتحول الى طريق آخر، منازل وفنادق ومطاعم وشبكة مجاري وعشوائيات بعد أن عملت الجرافات ما عملت به، أتساءل : لماذا؟ فلا أحد يدلك على جواب. ما الذي يحدث في العراق؟ وعلام تنهش يد التخريب الجسد الغض الجميل هذا؟ ولمصلحة من تتحول القرى والقصبات- علامة العراق الفارقة- الى ما هي عليه الآن، والصحراء واسعة تحيط البلاد من أقاصيها الى أقاصيها، مع يقيننا بان ما استصلح واصبح بساتينا لا يمكن استرجاعه.
في قرية السبيليات بابي الخصيب في البصرة قصر هو لأسرة آل النقيب، وهو واحد من معالم المدينة، استمرت فترة بنائه سنوات عشر، على مساحة واسعة من الدونمات، وهو علامة فارقة في الهندسة المعمارية فالبناة هنود وفرس وروم، أما من يد تمتد للإبقاء عليه؟ نعم، الإبقاء عليه حسب، لا لتعميره!!!
متوالية الهدم إلى أين؟
[post-views]
نشر في: 28 نوفمبر, 2017: 09:01 م