TOP

جريدة المدى > عام > التكنولوجيا والتأسيس الثقافي

التكنولوجيا والتأسيس الثقافي

نشر في: 26 نوفمبر, 2017: 12:01 ص

 أظننا غادرنا زمناً كانت كلمة إنساني رديفة للكلمات الروحية والعاطفية. وأظن سبب هذا الخطأ هو الثقافة الادبية. فهذه الثقافة قد تجر الى أخطاء اذا اقتصر التثقيف عليها. فالذي يميز الإنسان، عدا عن ذكائه المنطقي، هو دأبه العقلاني لمماشاة الطبيعة والتعامل معها، مثلما هو كامن في نشاطاته التكنولوجية. التكنولوجيا أساس لنشاط إنساني بدرجة كبيرة. ويرى بعض العلماء إنها قد تكون الأساس الراسخ في النشاطات الثقافية الإنسانية.

فهي لا سواها تميز جنسنا البشري عن بقية المملكة الحيوانية. الإنسان انتبه الى العمل الآلي والتقني لحيوية جسده وحركاته. والإنسان، هو لا غيره من الحيوانات، اعتمد على الآلات والادوات واخترع العجلة ودحرج الحجر بيديه ثم جره بحبل ثم ربط الحبل بحيوان ثم، كما نعلم، جاءت الماكنة لتوفر جهداً وتعجل بنتائج أفضل. ولم يعد عاراً أو انتقاصاً اذا قلنا أن الادب يتناول الجوانب الحماسية والعاطفية للحياة في حين تتناول التكنولوجيا العقل والرُشد .. ، هذا قول الدوس أكسلي، إن الجانب العقلاني للإنسان معبر عنه بعلمه وتكنولوجيته ولا نجد تعبيراً عنه في الفنون الادبية. هم غير معنيين بالنظام التقني للجسد قدر عنايتهم بعواطفه وانفعالاته. "وقد جاء اهتمام اكسلي بعلم البيئة الذي بدأ الوعي به، حين كتب مقالته عام 1962 وريثاً لتقاليد عالِم طبيعي. دافعه لذلك خشيته أن يفسد التكافل بين الإنسان والطبيعة .."
نحن لسنا بصدد الخوف على الطبيعة ولكننا بصدد النقص الخطير لثقافتنا الادبية وشيوعها بهذا النقص بين الناس، مما قد يسبب عزلة، مسافة فاصلة بين الروحانيات والعواطف من جهة وبين دينامية الفعل من جهة اخرى. فهذا قد يخل بالتوازن بين الإنسان والطبيعة.
أي اتصال أو تآلف مع الطبيعة يستوجب فهما لديناميتها ودينامية الأحياء لنقف على أسس راسخة في تفسير الظواهر. تعبير "الفنون الجميلة" عند الاغريق القدماء يتضمن الحِرَف. والحِرَف تطبيقات تقنية. وحين ترجمتُ يوميات رامبرانت، وَرَدَ في كلام له انه ذهب الى صانع أو مصلح ساعات ليرى صنع الزجاج وصقله. وفي مكان آخر يشرح لنا كيف كان يصنع أصباغاً لتلوين لوحاته..
ما يدعو للكتابة في هذا الموضوع هو العزلة التي تجعلنا أشباه غرباء عن عالمنا الطبيعي واننا لسنا جزءاً منه. إن صلاتنا بعالم الطبيعة، بالبيئة وحيواناتها وكواكبها وبحارها ليست علاقة متفرجين أو مرشّحي معتقدات أخلاقية. نحن أحياء بين الأحياء. والاشياء حولنا يجب معاملتها كما لو كانت أجزاء في كائن حيَّ كبير. هي ونحن وباقي ما في الأرض نشكل دوامةَ عمل كبيرة.
وحين نأتي للتفاصيل، لمفردات عملنا اليومي وعملية الحياة الكبرى، نحتاج الى معرفة أسباب الحركة وطرائقها ومدى فاعليتها وعطلها. عمل الآلة لها شبه بآلية أجسادنا في الحركة والانتاج. لسنا أرواحاً. نحن أحياء نسمى بشراً. والارواح مفهومات من تطورنا العقلي. والآلة التي اسلمت نفسها للإنسان أشادت جسوراً وأبراجاً وسفناً وطائرات. أما الأعمال الجبارة في التدمير فالسبب وراءها افتقاد العقل وإنها أسلمت نفسها لنسخرها نحن. ونحن نسيء أاحياناً. لسنا دائماً أخياراً. القوى العظيمة مكسب بشري كبير قبل أن ترتبط بالتدمير، الكبير ايضاً. عملَ الإنسان على الارض طوال أكثر من خمسة آلاف سنة ليفهم ويطبق الفعل التكنولوجي. ولولا فهمه هذا لما فهم حركة القلب والدورة الدموية وتكامل عمل الجهاز الهضمي والعصبي ثم بدأ فهم العمل العقلي..
ثقافة حقيقية تستوجب إلماماً تقنياً لفهم الذات وفهم حركة الحياة وكذا فهم المجتمع. حركات الأذرع وإطلاق الصرخات واستعمال السلاح والقتل وفك الأسرى هي أعمال تقنية.
قد يكون مفيداً إعادة النظر في الأسس الايديولوجية للنظام الكلي الذي نحن ضمنه، لفهم ما وراء التقبّل والارتياح، الانبساط او الانفعال والتفجّر أو الهرع الى السلاح أو منصة الخطابة. هي ليست حركات بهلوانية هي حركات تكنولوجيا الإنسان. نحن ملزمون اليوم بشرح أو بتفسير السبب لتوقّف الآلة في الوقت الحرج ونعرف سبب تعطل الفارس او توقفه المفاجئ. هي ليست روحيات فقط هو جسد وحركات تكنولوجية واجزاء ماكنة تعمل. التوقف أمام الاخلاقيات وحدها خطأٌ وخطل رأي.
إن هذا العرض الذي صار طويلاً، كان لتأكيد ضرورة الاكتمال الثقافي. حسن، الطب لم يبتعد في دراساته عن التكنولوجيا وكذا بعض موضوعات الزراعة. ودرس الميكانيك لا ينبغي أن يظل حقل تخصص بعيداً تماماً عنا. ليكن حقل اختصاص وليكن لنا إلمام بتقنية الاجهزة الرئيسة وطبيعة حركتها. مثلما يكون لنا إلمام، غير متخصص، بالوظائف البايولوجية وتحولها الى نظام ميكانيكي، فبسبب معرفتنا أمكن التحكم فيه من الخارج. نحن الآن لنا بعض السيطرة على دينامية وميكانيكية الوظائف البايولوجية لأجسادنا. وبفعل هذا الفهم التقني نحن نزرع أعضاء ونعرف كيف نستخرج الحصى من الكلى. عمل تكنولوجي يصحح عيوباً تكنولوجية لأجسادنا.
أيضاً، الاكتمال الثقافي العام بالثقافة التكنولوجية، أوقف مجاعات وأوبئة وعطل عمل خرافات وأساطير راحت بسببها ضحايا بشرية. التقنية وبناء السدود ومعرفة حركة السيول جعلت الماء دائماً في النهر وما عدنا نؤدي طقوساً مؤلمة، نرمي له بشراً أحياء ليرضى ويجري ...
لا اخفيكم إن بعض الكتابات الجيدة أدبياً، أحس بها ويحس بها العالم واصحاب التخصصات الاخرى، مضحكةً قليلاً. والسبب إن الكاتب يحرك الأحداث والشخوص ويستنطقهم ويستنتج بعيداً عن ثقافة العصر العلمية. التقويم الأخلاقي والروحي صلتهما بالأمنية أكثر مما بالواقع العملي. نحن لا نريد كتابات معزولة عن المعنوي أو الروحي أو العاطفي ولكننا نريدها كتابات عاقلة لا تبتعد أسبابها كثيرا عن فهمنا للأسباب الموضوعية. مر زمن طويل كان للاسطورة وللخيال الحالم تأثير تكويني على الثقافة البشرية. آن أن يكون للحقائق العلمية، ولفهم حركة الأشياء، وضوح يكسب كتاباتنا عقلانية هذا العصر الذي هي تُكتب فيه!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة
عام

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

د. نادية هناوي جددت المدرسة الانجلو أمريكية في بعض العلوم المعرفية كعلم النفس اللغوي وفيزياء الأدب وعلوم الذكاء الاصطناعي أو أضافت علوما جديدة كانت في الأصل عبارة عن نظريات ذات فرضيات أو اتجاهات كعلوم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram