كنت قد زرت متحف جورج بومبيدو في باريس عدة مرات لما يحمله من أهمية وتأثير فيما يخص الفن الحديث. لكن بما أن زيارتي الاخيرة كانت لجنوب اسبانيا، فلا يمكنني هنا أن أُفَوِّتُ فرصة زيارة متحف بومبيدو بمدينة ملقا، والذي تَمَّ بناؤه سنة ٢٠٠٥ بالتعاون مع باريس، ليكون حاضناً ايضاً لفن القرن العشرين والواحد والعشرين. إتَّضَحَ المتحف من بعيد بشكله المكعب الذي يشبه كثيراً مكعب كوبيك الشهير، فإقتربت منه وهيأت نفسي للدخول، لكن الابواب كانت مغلقة مع الأسف. فإقتربت اكثر من البوابة التي وُضِعَ عليها اعلان يـشير الى أوقات العمل، والذي يؤكد إن يوم الثلاثاء هو عطلة المتحف، وذلك عكس المتاحف الباقية التي عطلتها تكون يوم الاثنين. عدت في اليوم التالي، وقبل دخولي تحسستُ تمثال العنكبوت الضخم للنحاتة الفرنسية لويز بورجوا، حيث إنتصب في الخارج بإرتفاع اكثر من ثلاثة أمتار لتهيئة الفضاء الخارجي للدخول الى المتحف، كما فعل (بومبيدو باريس) حين وضع في الخارج عملاً جميلاً للنحات الكساندر كالدر.
دخلتُ المتحف، فإذا بسُلَّمٍ طويل جداً أخذني نحو الاسفل، وقد رُسِمَ على درجاته مشروع فني يعود لأحد فناني ملقا الشباب. في الداخل، كانت القاعة الأولى مخصصة للبورتريت الشخصي، حيث واجهني اولاً عمل كبير ومضيء للفنان شاغال، يشغل اللون الأصفر نصف مساحته تقريباً، وهنا رسم شاغال نفسه مع زوجته (فافا) وهما يطيران فوق باريس، حيث تظهر البيوت والكنائس والعربات شاحبة في عمق اللوحة، وقد رسم شاغال هذاالعمل عند عودته من امريكا بعد انتهاء الحرب، ليثبت من جديد، انه كان ومايزال ملوناً عظيماً. ثم يأتي بورتريت الفنان كَيس فان دونغن الذي رسم نفسه بهيئة إله البحر عند الرومان (نبتون)، وهو يتقلد مجموعة كبيرة من القلائد الملونة ويرتدي ملابس بدائية غريبة، وأقراط طويلة ويمسك بيده صولجان، وعلى رأسه قبعة غير منتظمة الشكل حيث يتدلى جزء كبير منها الى الاسفل، بينما تظهر في عمق الخلفية الرمادية، سفينة بعيدة داكنة. في الجانب الآخر كانت لي وقفة مع بورتريت فريدا كاهلو، حيث تجلس وسط اللوحة بنظرتها الغامضة، الغارقة في الوحدة، وعلى جانبيها طائرين أصفرين، وقد أحاطتها بشكل إطار، مجموعة من الزهور التي إستعارتها من الفن الشعبي المكسيكي. بجانب فريدا يطل فرانسيس بيكون برأسه وكأنه يقول: أنا أيضاً موجود هنا ياسادة، ليظهر كيف رسمَ نفسه بشكل مختلف عن الجميع، حتى يُخيلُ لك بأنّه وضع وجهه الدائري وخصلات شعره المتدلية خلف إناء زجاجي مليء بالماء، حيث تمتزج إلتماعة ياقة القميص البيضاء مع ظلام الخلفية، وينحرف الجانب الايسر من الوجه وكأنّه تحت تأثير صفعة او هزة عنيفة. في مكان آخر عُرِضَ بورتريت راؤول دوفي الذي رسم نفسه بلونين، ويظهر وجهه البرتقالي وشعرهُ الفاتح على خلفية خضراء، ليبدو بعينين خاويتين ووجه بائس. وقد عالج العمل بضربات فرشاة تُعيدنا الى فان غوخ ولوتريك.
أخذت جولة طويلة في المتحف، استوقفتني فيها الكثير من الاعمال، فهنا تتدلى الى الاسفل سيقان الرجل والمرأة في لوحة بازيليتس الذي اعتاد ان يعرض لوحاته بالمقلوب. وهناك تظهر عجائن ألوان وليم دي كوننغ التي وضعها على قماشة كبيرة بفرشاته الصاخبة ومعالجاته التي أسس من خلالها مع بعض الفنانين إتجاه التجريدية التعبيرية، وأعمال كثيرة اخرى في متحف جميل وانيق.
هممتُ بالخروج وانا أحمل معي بعض مطبوعات المتحف، والتذكرة ماتزال بيدي، ليفاجئني قاطع التذاكر من جديد، لكن هذه المرة كان عملٌ للنحات جورج سيغال، الذي قَدَّمَ كالعادة كابينة حقيقية، ليعرض لنا عملاً نحتياً عظيماً، حيث يجلس قاطع التذاكر غارقاً في وحدته بعد ان دخل آخر الرواد لمشاهدة الفيلم.
عنكبوت قرب المتحف
[post-views]
نشر في: 24 نوفمبر, 2017: 12:16 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...