TOP

جريدة المدى > سينما > الفيلم الفرنسي "إلهيات".. بذرة التطرّف من يزرعها

الفيلم الفرنسي "إلهيات".. بذرة التطرّف من يزرعها

نشر في: 23 نوفمبر, 2017: 12:01 ص

أثار الفيلم الفرنسي "Divine" 2016، للمخرجة المغربية هدى بن يمينة، والذي حصد جائزة الكاميرا الذهبية بمهرجان "كان" السينمائي العديد من النقاشات الصعيد العالمي، خصوصا بعد أن تم اختياره ضمن القائمة القصيرة بترشيحات "غولدن غلوب" 2017، لأحسن فيلم أجنبي، بالإضافة إلى 7 ترشيحات لجوائز "سيزار" الفرنسية.

تُحيل طريقة المُعالجة الفنية للمخرجة هدى بن يمينة، مباشرة إلى أفلام هوليود التي جسدت العنف، خصوصاً الأعمال التي عكست مثلا أحياء بروكلين وبرونكس في نيويورك، كفضاء مكاني حاضن لسلوكيات مجتمع منحرف وعنيف حسب "الكليشهات" التي كرستها، خصوصا في عملية تثبيت ورسم لمرحلة الجريمة وعوالمها، بالإضافة إلى عملية البناء الدرامي للعمل ككل، الذي لم يخرج عن معادلة (تمهيد، عرض، عقدة، ذروة، ونهاية" ما جعل معطيات الفيلم الجمالية منفلة قليلا، وكلاسيكية إلى حد ما، على عكس "الثيمة" طبعا، وان كانت في مجملها عادية، لكن في تأويلها البعيد جديدة نسبيا، بحكم تناولها لمسببات "التطرّف"، وهو الشيء الذي ركزت عليه طبعا، من هنا جاء "الريتم" السريع للأحداث، عن طريق تنوعها وتشابكها، ما يجعلنا نعود إلى السيناريو المتماسك، الذي لعب كثيرا على العاطفة، وخاصية، الفقد، الحرمان، اليتم، الظلم، الخيانة، الصداقة، وهي كلها انفعالات تؤثر بشكل كبير على المُتلقي/ الجمهور، خصوصا فئة المهاجرين وسكان الضواحي الذي لديهم مشاكل مثل التي طرحها الفيلم، ما يجعل من تلك الانفعالات بالضرورة يُعاد تشكلها من جديد، إذ سبق وان خبروها، ما يجعل التقبل فوري وقوي.
وفق هذه المعطيات يمكن القول بأن المخرجة عرفت كي تسير فضاءها وان كان ضيقا، لكن فيه الكثير من التفاصيل، التي خلقت من خلالها العديد من بؤر التوتر والترقب.
جاءت مقدمة الفيلم، مُركّزة ومُختصرة لما هو آتي، ومن خلالها تم تحضير المُشاهد بطريقة جيدة، حيث زرعت فيه كما من المعطيات والمعلومات، منبهة بخط المتن ورسائله، وهذا بعد أن وزعت مشاهد الفيلم على عديد الزوايا، وكأنها تقوم بعملية مسح شامل للفضاء الذي تجري فيه الأحداث، وهو عبارة عن حي شعبي مهمش، مليء بالتناقضات، ينطلق المشهد من فضاء المسجد، حيث تجلس ميمونة الفتاة سوداء (Déborah Lukumuena) التي ترتدي الحجاب مع مجموعة من النسوة، وهن يستمعن لدرس الإمام، فيما ترسل المراهقة البيضاء دنيا (علية عمامرة) لصديقتها ميمونة ابنة الإمام رسالة من الهاتف، لتخرج لها وتلقاها، وفي نفس الوقت تراقبها من النافذة، بعدها يتم تسليط الكاميرا على فضاء خارجي، حيث شاب أبيض اسمه سمير(ياسين حويشه)، يتسلم كمية من المخدرات من فتاة سوداء آخرى اسمها ربيكا (Jisca Kalvanda) تقود سيارة فارهة، من هنا يأتي هذا التناقض الكبير في هذا الحي، ليتم بعدها تصوير العديد من المشاهد القصيرة التي تتطرق لحياة الفتاتين في هذا الحي، عن طريق ذاكرة الهاتف الجوال، التي تم استعمالها بطريقة ذكية، وكأنها محاولة من المخرجة لتثبيت مفهوم مفاده أن الفتاتين مراهقتين، يمارسان طقوس طفولتهما بكل بساطة، من خلال اللعب بالدراجة الهوائية، أو الجري، الضحك وتنفيذ المقالب، وفي نفس الوقت يتم نقل مشاهد في غاية الأهمية، وهي محاولة دنيا تقليد مشهد عنف، وكأنها تتدرب على ما يمكن أن تكون عليه من عنف، لتنتقل بعدها المراهقتان للبس الحجاب، لغاية التمويه به من أجل ممارسة السرقة من "السوبرماركت"، والمعروف عن الحجاب بأنه لباس ديني، يرمز للعفة والطهارة، وكأنّ الفيلم يبرر السبب الذي تم من خلاله منعه في العديد من البلدان الأوروبية، لأن الفتاتان وكما استطاعتا سرقة العديد من الحاجيات ودسها في لباسهما، فإن باستطاعة هذا اللباس أن يخبئ أشياء أخرى، يمكن أن تهدد أمن الناس، كل هذه المعطيات المتناقضة نقلتها المخرجة في 7 دقائق تقريبا، حيث تم تحضير المشاهد بطريقة جيدة للأحداث العامة للفيلم.
دنيا بالنسبة للمخرجة ما هي إلا أداة للتعبير على فئة من المجتمع الفرنسي، يُطلق عليهم سكان الضواحي، الذين لا تراهم عدسات الكاميرا والصحافة، ولا تلقى أي انتباه من السلطة أو الحكومة، لتكون هذه المراهقة بمثابة النبتة التي غرستها المخرجة في قصتها، وتتبعت طريقة نموها، لكن للأسف كانت نبتة غير مكتملة، لم تجد التربة المناسبة لتكبر، ولا النور لتزهر، ناهيك عن غياب الماء الذي يروي عطشها، ويُشع نظارتها، وهكذا ذبلت ويبست، لم تجد شروط النمو الصحيح، و هنا يتم طرح جُملة من الأسئلة، أبرزها السؤال الجهوري، لم حدث كل هذا..؟، وما يزال يحدث..؟، لتكون إجابة المخرجة من خلال سرد الأحداث وسياقها، ووضعها أمام المشاهد، دون أن تُنصّب نفسها قاضياً، وتطلق الأحكام، تدين جهة على حساب أخرى.
عندما وعت دنيا على الدنيا، وجدت نفسها بدون أب، أي لقيطة، في مجتمع لا ينفك يذكرها بهذه الصفة كلما نسيتها، وجدت نفسها في غرفة واحدة أشبه بخمّ الدجاج، بحي قصديري منسي تماما، هي وأمها التي تمارس الدعارة والرقص كي تعيش هي وابنتها، كل هذا أمام نظر هذه المراهقة، التي قست عليها الدنيا فبادلتها بقسوة أشد منها، فلم تعد تفكر إلا في طريقة لكسب المال، لتخرج من هذه الحفرة العميقة التي وجدت نفسها فيها، فبدأت في السرقة، ثم انخرطت بعدها في بيع المخدرات مع ربيكا، التي استطاعت أن تكسب ثقتها، كل هذا يتم مع صديقتها المُقربة ميمونة ابنة إمام الحي، ووسط كل هذا كانت الصديقتان تتسللان إلى أحد المسارح، التي كان يتدرب فيها مجموعة شباب على الرقص، من بينهم الشاب الوسيم (Kevin Mishel) صاحب العضلات المفتولة، والذي يشتغل كعون أمن في "السوبر ماركت"، وقد شاهدت المراهقتان من خلال تسللهما للمسرح النقاش الذي دار بينه وبين المدرب حين أتى متأخرا ، مليئا بالغضب والخوف، ما يوحي بأنه يملك هو الآخر كمية كبيرة من الذكريات السيئة، لكنه وجد طريقة لإخراجها، والتغلب عليها عن طريقة هواية الرقص، على عكس دنيا التي لم تجد منفذا لتنفيس هذا الغضب، إلا بالانخراط في عوالم المخدرات والجريمة، لهذا دخلت فيها بكل قوتها، لتثبت وجودها، وتجمع المال الكافي للخروج من الحفرة العميقة والمظلمة التي تعيش فيها، وفي خضم كل هذا كله، تقرر ربيكا تكليفها بمهمة سرقة مبلغ مالي كبير من رضا (فريد عربي) أحد تجار المخدرات الكبار، من هنا تقوم بتدريب دنيا على لبس الكعب العالي، وإظهار جمالها وأنوثتها، كي تستحوذ على انتباهه ويأخذها إلى منزله، ومن ثمة تقوم بسرقة ماله الذي يخبئه فيه، وقد تصادف نفس الموعد التي ضربته مع حبيبها الراقص الذي تم اختياره ليخوض المسابقة، وقد سبق وأن سلمها تذكرة، بموعدها مع رضا تاجر المخدرات، لكنها اختارت الأخير، والذي أخذها إلى منزله، حيث تفطن لها بعد أن وجدها تفتش في حاجياته، عنّفها وضربها، لكنها تصدت له وضربته وتركته يسبح في دمائه، سرقت المال وانصرفت، وقتها قررت أن تتجاوز ربيكا صاحبة الخطة والمشروع، واكتفت بترك جزء من المال لأمها، ونصيب لصديقتها ميمونة، وقررت الرحيل، لكن في الأخير تفطنت ربيكا لهذا، وقامت باحتجاز ميمونة في أحد الغرف، وطلبت من دنيا الحضور بالمال أو تقتل صديقتها، رجعت دنيا بسرعة لتنقذ صديقتها، وأحضرت معها جزء من المال، لكن ربيكا لم ترضى بهذا الجزء، لهذا سكبت عليها البنزين لتحرقها، لتقر بباقي المال، حيث عرفت بأنه مخبئ عند أمها، حيث أرسلت سمير لإحضاره، وعند خروجه أغلق باب الغرفة خلفه، وهناك اشتعلت النيران، وبدأت ألسنة اللهب في الانتشار، ولم يجدوا طريقة للخروج سوى نافذة صغيرة، خرجت منها ربيكا ودنيا بحكم صغر حجمها، أما ميمونة لم تستطع لأنها بدينة، وفي انتظار عناصر الإطفاء الذين لم يقتربوا من الحريق، بحجة أن الأوامر التي تلقوها تجبرهم على عدم الاقتراب أكثر كي لا يتم مهاجمتهم بالحجارة من قبل السكان، من هنا ماتت ميمونة واحترقت.
عكس فيلم "ديفين" الراهن الفرنسي، الذي يعكسه مشكل "التطرّف"، حيث استطاعت المخرجة هدى بن يمينة وبطريقة غير مباشرة أن تبرز هذه المعطيات (في فيلمها) التي توّلد العنف والتطرّف، حيث هناك فئة واسعة من المجتمع الفرنسي تعيش في جحور، ولا تحظى بالاهتمام اللازم، وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية أو الثالثة، أي أن السلطة الفرنسية هي من تصنع وتغذي هذه القنابل الموقوتة، ولأن طرح المخرجة ذكي فقد تركت نهاية فيلمها مفتوحة على العنف والاحتمال، بمشهد أبناء الحي الذين استنجدوا بعناصر الإطفاء كي يخمدوا الحريق الذي نشب في الغرفة التي تتواجد فيها صديقتهم وابنتهم وحبيبتهم المراهقة ميمونة، لكن هؤلاء لم يستجيبوا لهذا النداء الذي تتطلبه وظيفتهم الإنسانية، والحجة هي الأوامر التي تلقوها بأن لا يدخلوا لهذه المنطقة، من هو الذي أعطى هذه "الأوامر" التي أدت إلى الوفاة ..؟(& ضسث)، أي أنهم هم أيضا شاركوا في عملية القتل، وفي غمرة هذه الأحداث جاءت الشرطة كعادتها، بعد أن بدأت الاحتجاجات التي كانت "مشروعة ومبررة"، لتقمعها بعصيها، بعدها جاء الامام كامارا(Bass Dhem) والد المراهقة ميمونة التي قضت حرقا، يبحث ويسأل عن ابنته الوحيدة.
هذا ما حدث في الفيلم، لكن لو كانت هذه الوقائع حقيقية على أرض الوقع فيمكن بسهولة أن نعرف ما كان يمكنه أن يحدث، إذ من المتوقع أن يستغل السيد كامارا منصبه كإمام لبث أفكار متطرفة في سكان الحي، الذين يمتلكون كل الشروط الضرورية التي تؤهلهم لاعتناقها، من بينها الحقد الذي يكنوه للسلطة، بسبب التهميش والإهمال وما حدث لميمونة، ويمكن لهذا الإمام أن يدافع بكل قوة وحماس عن الفكر المتطرف، لأنه مجروح، طبعا هي معطيات لا يمكن أن تبرر التطرّف مهما كان، لكن النفس البشرية تميل دائما إلى الانتقام، إذ ما وجدت شروطه.
وبطريقة عكسية ماذا لو أن ميمونة ودنيا وجدتا الظروف المناسبة، ألم يكونا ليحبا الموسيقى ويكون مصيرهما غير الموت والانحراف، وقد زرعت المخرجة هذه الفرضية، من خلال النقاش الذي دار بينهما أكثر من مرة، ما أظهر شغفهما بالموسيقى، لكن السلطة لم توفر هذه الشروط ليحيى السكان حياة كريمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram