مثلما أمسى المواطن في بلدنا ضحية للصراعات السياسية والطائفية والعرقية وتعرضت حياته وذاكرته للانتهاك والتغييب ، كان لابد - مع هذه الفوضى والفساد الذي أصبح عقيدة راسخة لدى السياسيين - أن تتراجع مكانة الثقافة وتتعرض لليتم والتدمير ويجري إنكارالتراكم الثقافي ودور المؤسسات الثقافية كالمسرح والسينما وقاعات الموسيقى في تعزيز القيم الجمالية والفكرية وفاعليتها في صياغة وجدان المجتمعات والأجيال الجديدة.
إزاء الوضع المحبط لثقافتنا لايتبقى أمام المعنيين بها – أفراداً ومؤسسات خاصة- سوى التصدي للاهتمام النظري بالثقافة ومفهومها الواسع وملاحقة تطورها التاريخي باعتبارها فرعاً حيوياً من تأريخ الأفكار ، وقد دفعتني هذه الحقيقة لإختيار بضعة كتب عن الثقافة وبدأت بترجمة كتاب ( الثقافتان ) للعالم - الروائي تشارلس بيرسي سنو Charles Percy Snow ، وهو الكتاب الذي أحدث تأثيراً واسعاً لما أثاره من تعليقات ومناقشات وسجالات في الثقافة العالمية المعاصرة. يُعدّ هذا الكتاب واحداً من الكلاسيكيات الثقافية التي طبعت الثقافة العالمية بطابعها المميّز إلى الحدّ الذي غدت فيه مفردة ( الثقافتان ) تُقرن باسم (سنو) ، ونعلم أنّ هذا الكتاب كان في الأصل محاضرة ألقاها (سنو) في جامعة كامبردج عام 1959 ( في سياق محاضرات ريد Rede الشهيرة ) وبعنوان ( الثقافتان والثورة العلمية ) ، ثمّ أضاف للنصّ المطبوع من المحاضرة عام 1963 جزءً تكميلياً بعنوان ( الثقافتان : نظرة ثانية ) ، ومن المدهش أنّ هذه المحاضرة نُشِرت في مطبوعات ثقافية كثيرة ونشرتها مطبعة جامعة كامبردج بصيغة كتاب صدر في طبعته الخامسة عشرة عام 2012 ، مما يؤكد مدى أهمية هذه المحاضرة وراهنيتها في الثقافة المعاصرة.
أنضجت محاضرة سنو ( مع المراجعات الخاصة بها ) لديّ أسباباً محرضة عديدة لترجمتها ؛ ففيها الكثير ممّا يجعلها مصدر دلالة مرجعية تؤشر غنى الثقافات الحية مقابل الجدب الثقافي لدينا ، وتؤكد الدور الأساسي الذي تلعبه الجامعات في تطور ثقافة المجتمعات الطموح للتقدم ، فقد قدمت هذه المحاضرة في جامعة كامبردج ( تأسّست في بواكير القرن الثالث عشر!! ) ضمن تقليد ثقافيّ سنويّ لإستضافة أحد العلماء الثقاة في حقل معرفيّ محدّد لإلقاء محاضرة في ذلك الحقل، ولطالما إستضافت الجامعة أعلاماً صارت محاضراتهم كلاسيكيات ثقافية مرجعية ، ولا يقتصر الأمر على جامعة كامبردج ؛ بل إنه تقليد تتّبعه كلّ الجامعات الرصينة في العالم مما يكرس الجامعة هيكلاً مؤسساتياً فاعلاً ومؤثرا لتحقيق الإنعطافات الثقافية ( الثورية ) في حياة المجتمعات بدل أن تبقى الجامعة محض هيكل خاوٍ محكوم بسياقات مؤسساتية وظيفية محدودة الأثر.
تنطوي محاضرة سنو على تفاصيل ثرية ؛ غير أن ميزتها الأهم تكمن في تناول ( سنو ) لموضوعة ( الثقافتان ) من وجهة نظر عالمٍ تسنى له العمل كمسؤول إداريّ حكومي لصياغة ما صار يعرف بـ ( سياسات العلم والتقنية ) - ذلك المسعى الذي يجعل العلم والتقنية أداة فعالة يمكن رؤية مفاعيلها على الأرض في إطار الهيكل الحكوميّ المؤسساتي المُتاح بدل أن تبقى محض أبنية فوقية تنظيرية نسمع ضجيجها وأصداءها ولانرى حصادها على أرض الواقع .
ثمة الكثير من التفاصيل المثيرة في محاضرة ( سنو ) ستكون متاحة في الكتاب أمام المعنيين بتاريخ الأفكار ، وبقدر سعادتي بإنجاز ترجمة هذا العمل الثقافي أخيرا إلى العربية فإنّ غصّة تتردد في روحي لبؤس واقع ثقافتنا ويُتْمها . نعم ، فثقافتنا يتيمة منبوذة أيها السادة.
نعم أيها السّادة: ثقافتنا يتيمة!!
[post-views]
نشر في: 18 نوفمبر, 2017: 09:01 م