يقولون إن الولد سر أبيه، نعم، قرأتها كثيراً هنا وهناك، لكن المعنى الكامل لها لم يظهر جلياً أمامي سوى حين توقفت أمام الملصق الكبير الذي وُضِعَ امام بوابة المتحف الروسي بمدينة ملقا، ليعلن عن معرض كبير ومهم للرسام الروسي ألكسي جاولينسكي وابنه اندريه جاولينسكي! يالها من فرصة عظيمة أن أشاهد أعمال واحدٍ من اعظم التعبيريين في العالم، بجانب أعمال ابنه الرسام المهم الذي لم ينل شهرة ابيه. ابتدأ المعرض بلوحات جاولينسكي الأب (١٩٦٤-١٩٤١) الذي استهله ايضاً ببورتريت لأبنه وهو بعمر خمس سنوات، ابنه الذي ستظهر لوحاته فيما بعد في ذات المعرض. وهذا البورتريت الذي اعطاه عنوان (أندريه الجالس) رسمه بألوان تعبيرية ومعالجة سريعة تَنِمُّ عن عاطفة كبيرة. وبجانبه عُرِضَت لوحة (المصنع) حيث الدخان يتطاير من المدخنة العالية ليمتزج بالسماء البرتقالية، بينما تستقر الاشجار الداكنة في خلفية اللوحة.
تظهر بعد ذلك مجموعة من البورتريهات أو الوجوه التي رسمها على شكل بقع ومساحات من اللون والخطوط المختزلة، وقد تميزت بعيونها الجاحظة وألوانها الصريحة. ثم بدأت الوجوه تأخذ منحاً آخر، لتبدو في لوحات اخرى أكثر إسترخاءً وهدوءاً وإستقراراً، بخطوط عريضة سوداء تحدد الملامح. وهذه التقنية تعيدنا هنا الى تقنية الحفر على الخشب التي ميَّزَتْ التعبيرية بشكل عام. وتظهر أيضاً في هذه اللوحات بعض التحريفات التي قام بها الفنان على وجوه الشخصيات. يالها من وجوه مُشِعَّةٍ يملؤها الضوء، ولم يكن اعتباطاً أن يمنح واحدة من أجمل وجوه النساء هذه، عنوان (الضوء يأتي منها).
وفي مرحلة اخرى يسحب جاولينسكي هذه الوجوه الى منطقة جديدة، وكأنه لا يريد أن يغادرها إلّا بعد أن يستخلص كل طاقتها الجمالية، وهنا قرَّبها اكثر من التجريد اللوني الذي يذكرنا بكاندينسكي وربما ديلوني ايضاً، حيث ظهرت بقع لونية تشبه دوائر متداخلة مع بعضها في تناغم يقترب من الموسيقى. وبما أن مغامرته مع هذه الوجوه لا يريد لها أن تنتهي بسهولة. فها هو يمنحها من جديد بعداً آخر ومعالجة مختلفة، اقتربت من معالجات موندريان، ليختزل الخطوط اكثر واكثر. حيث تظهر الاشكال الهندسية وتغيب الملامح في فضاء اللوحات التي بدت شخصياتها حالمة ومغمضة العيون، كما في لوحته (وجه كارما التجريدي).
في جانبٍ آخر من القاعة الكبيرة عرضت لوحات اندريه جاولينسكي (١٩٠٢-١٩٨٤)، وابتدأت المجموعة بلوحة جميلة تمثل فتاتين، بألوان مدهشة تعيدنا الى تناغمات الرسام أوكست ماكه، حيث توسط البنفسجي والاحمر، بينما انتشر الاخضر بدرجاته ليملأ فضاء العمل. بعدها تظهر مجموعة من البورتريهات، منها بورتريت السيد باور الذي ينتمي بكل أبعاده وتقنيته الى التعبيرية الالمانية الجديدة، التي وضع لبناتها أوتو ديكس وجورج غروس. ثم يظهر بورتريت لشابة شقراء جعلت اللوحة هنا مناسبة للاحتفال، بثوبها الشعبي المطرز بالنجوم وشعرها الذهبي الذي تناثر ليمتزج مع الغيوم البيضاء في خلفية اللوحة. ثم تتوالى بورتريهات لنساء بوضعيات مختلفة ومنها البورتريت الذي رسمه لزوجته، والذي أثبت من خلاله بأنّه يسير على خطى أبيه ويستحق النجاح مثله.
لينتهي الجانب المخصص لأندريه الابن بعدد من لوحات الطبيعة التي رسمها بمناخات غرائبية مزجَ فيها عجائن فان غوخ ورمزية ألوان غوغان، إضافة الى ماتعلمه من التقاليد الألمانية في معالجات اللون وتحريف الأشكال والقوة في الأداء والاسلوب.
ورغم أن اللون هنا في هذا المعرض قد ربط الأبن بأبيه، فقد تخللت حياتهما الكثير من التصدعات والفراق قبل الاعتراف بالابن الذي ولد لأم شابة صغيرة كان قد تَعَرَّفَ عليها الأب، الذي يعتبر أحد مؤسسي جماعة الفارس الأزرق صحبة كاندينسكي.
وجوه يملؤها الضوء
[post-views]
نشر في: 17 نوفمبر, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...