TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في "التطابق" و"المفارقة"

في "التطابق" و"المفارقة"

نشر في: 12 نوفمبر, 2017: 09:01 م

1.
أقرأ في المقهى أحياناً، بديلاً عن قراءة البيت. في المقهى يُعدّ لي الشاي، ولا أعدُّه أنا، وقد أطمع بقطعة حلوى. ثم أني إذا ما استرحتُ من متابعة الفقرات والصفحات، أرتفع إلى متابعة أوجهِ وهيئاتِ المارة من الناس. وقد أعلو إلى تأمل العمارة، وأعلو أكثر إلى تأمل ما يعتمل في الأفق حسب المواسم، من إضاءة شمسٍ أو ظلالِ سحب.
كثيراً ما أعلو أيضاً، لا طمعاً باستراحةٍ من قراءة، بل طمعاً بما تدفعني القراءةُ إليه ــــ جملةٌ، سطرٌ، فقرةٌ أو صفحات ــــ في ملاحقة رؤى تتفتح طياتٍ. رؤىً لا يقدر عليها إلا الخيال وحده، لأنها وليدة تزاوج بالغ الغموض بين قوى العاطفة، وقوى الأفكار، وقوى الحواس الجسدية داخل الكائن، حيث لا فواصل. القراءة هنا مُلهمة، كذلك لحظات التأمل، لأنها تُنتج رؤىً، والرؤى تطمع بدورها أن تتشكل بكلمات، بنص، وهي مُبدعةٌ أيضاً، على افتراض أني اتحدث عن شاعر، في هذا القارئ في مقهى.
في غمرة هذه الرؤى التي تتدفق برقة ماء في مجرى، يسيرة طيعةً، هكذا تبدو لي، أُعدُّ ورقةً أو صفحة حاسوب لأكتبها، أو أكتب بوحيٍ منها. أقترح كلمة، أو جملة، ثم أتوقف. أتأملها بحرج من يتبين مقدار هُزالها، وقصورها وافتعالها ربما. وبالرغم من أني أعرف أن ما أراه من هزال هو وليد مُفارقةٍ لا تقبل التسوية، بين رؤى (عواطف وأفكار وحواس) ليست بصرية تماماً، وليست مجردة تماماً، وبين كلمات تلتصِق بها معانيها النفعية والعملية، إلا أني أجدني أحاول، وأظل أحاول.
المفارقة لا تقبل التسوية، ولذا أحاول الاحتيال على اللغة بتقنيات الاستعارة والمجاز. إلا أن المفارقة لا تلين. صحيح أن تقنيات كهذه قد تمنحني صوراً لا أغفل جمالها، وعمقها، إلا أن مذاق الاحتيال يلاحقني، ويُلقي مزيداً من الضوء على المفارقة، بين تلك الرؤى العميقة المُلهمة بوضوحها، والتي خرجت من كياني الانساني كله، وبين الكلمات المحتالة على الورقة، التي تبدو أسماكاً لفظتها الأمواج على شاطئ.
قد تبدو في هذا الشعور مبالغة، ولكنها مبالغة على قد المقام. الشاعر لا يخلو من هذا الهاجس، منذ زمن قديم. والذي يتمتع بحاسة موسيقية، سيكون على يقين أكثر في هذا الهاجس، خاصةإذا ما استطاع أن يتأمل موسيقياً إلى جانبه، لا في المقهى بالضرورة، ولكن في مخيلته.
الموسيقي حين يؤلف عمله، يؤديه أو يغنيه، إنما يلاحق لغة ليست رموزاً لمعانٍ دالة كلغة الكتابة، بل رموزاً لأصوات. والرمز والصوت هنا متطابقان، فكلاهما تجريد، هو عين التجريد الذي يعتمل داخل الموسيقي من عواطف وأفكار وأحاسيس. ما من مفارقة هنا. الصوت كامن في الرمز كمون الخضرة في العشبة. وبفعل هذا التطابق الكلي تتطلع كل الفنون لأن تكون موسيقى، ولكن هيهات.
2.
يذكرني هذا التطلع إلى التطابق بين اللغة ورؤى الشاعر، أسوة بالتطابق بين النوتة والصوت لدى الموسيقي، بتطلع آخر أكثر أهمية وخطورة، طالما ألحّ عليَّ فيما أفكر فيه، وفيما أكتب عنه، هو التطلع إلى مطابقة الكاتب فيما يكتب مع ذاته ككائن حي. مطابقة النظر والفعل، الفكر والحياة، بين ما يشغلني في التأمل وفي الممارسة. إن من يتأمل الكاتب العربي، شاعراً، مفكراً، سياسياً، يصطدم بهذه المفارقة الشائعة التي تقرب من الشيزوفرينا، بين كتابة وتفكير أحدهم وبين ذاته وحياته. حتى لتبدو المعرفة وخبرة التأملات، إذا ما توفرت، لا تغذي الكائن بنسغها من أجل ثمرة ما نافعة. بل هي على العكس تماماً سرعان ما تتحول إلى أسلحة للدفاع وللهجوم، أو إلى قوى عضلية للادعاء والنفاجة. ما من فكرة، أو تجربة في حقل المعرفة، مهما عظمت، كفيلة بتغيير مجرى الحياة. وكأن حياة الشخص لا تعتمد”ذاتاً”على قدر من التكون.”الذات”التي شغلت الوجودية من كيركجور حتى سارتر وكامو. إن كل ما يتصل بالجهد المعرفي، مهما تنوعت حقوله، لا تمس كيانه الانساني، لأن معانيها تظل عالقة في الرأس كذرائع وحجج للدفاع والهجوم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram