TOP

جريدة المدى > عام > ماركس والمتخيل الثقافي الأوروبي.. لعبة (المرايا المتبادلة) للمجتمعات الشرقية

ماركس والمتخيل الثقافي الأوروبي.. لعبة (المرايا المتبادلة) للمجتمعات الشرقية

نشر في: 13 نوفمبر, 2017: 12:01 ص

هل توجد قطيعة ابستيمولوجية جذرية بين النظام الثقافي الأوروبي السائد في القرن التاسع عشر والكتابات الاستشراقية  بالمعنى النقدي؟ إن نظام خطاب الكتابات الاستشراقية الأوروبية  سواء كان الخطاب السياسي أو الخطاب الاقتصادي أو الخطاب الفلسفي هو نتاج تمفصلات تاريخية وانساق ثقافية وأرحام فلسفية حيث إن الكتاب والمؤلفين الاستشراقيين  ينتمون معرفياً الى ذروة الفكر العقلاني الأوروبي كما يرى ماكسيم رودنسيون، ذلك انهم مثقفون (يشتغلون، يفكرون، ينتجون) داخل اثريات النظام الثقافي المؤسساتي الاوروبي وهذا النظام الثقافي وليد ابستمية معينة ترسخ  رؤيته للعالم تحت ربقها رغم المحاولات الجديدة الرامية الى رد الاعتبار له بتخليصه من براثن تلك الابستمية فان النزعة المركزية الاوروبية تظل قائمة لديهم حتى في النصوص التي تعد من مرحلة الاختمار والنضج.

تؤكد الكتابات الاستشراقية وتكرر تفسيراً للفارق الاساسي بين البنى الاجتماعية الشرقية والبنى الاجتماعية الغربية على فرضية مستمدة من الفلسفة الهيغلية وذلك في معالجته للبلدان الآسيوية كأستبدادات شرقية بلا تاريخ وبعض الوقائع السياسية الاستعمارية ولكن بقيت معرفتهما بالتاريخ الشرقي مقتصرة على ما تحتويه محاضرات هيغل في فلسفة التاريخ فضلاً عن غيرها من المعلومات التي كانت متوفرة لكل مثقف في تلك المرحلة التاريخية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

ماركس الاستشراقي
أما بصدد ماركس فقد كان متماهياً مع نظام الثقافة الأوروبية عندما يرسم صوراً وتركيبات فولكلورية ودونية للمجتمع الجزائري خلال اقامته هناك (مراجعة رسائل ماركس انجلس من الجزائر ترجمة جورج طرابيشي) حيث رحب انجلس بالغزو الفرنسي للجزائر واعتبره (حقيقة مهمة وسعيدة في تقدم الحضارة) ويعتمد تفسير لهذا على فرضيتين أساسيتين:
اولاً: هو ركود التشكيلات الاجتماعية للعالم الشرقي.
ثانياً: إن الامم الصغيرة لا تسهم في تطوير الرأسمالية كنظام علاقات اقتصادية عالمية وهنا يعتبر ماركس إن الرأسمالية نظام مجتمعي وثقافي قادر على تقويض انماط الانتاج السابقة للرأسمالية. قد لا تبتعد نظرية ماركس في هذا الحقل عن السيوسيولوجية البرجوازية التقليدية والمنهج البراغماني الانكليزي اتجاه مجتمعات المستعمرة. والمجتمعات الطرفية في الاقتصاد العالمي.
يضاف الى ذلك إن التصنيفات والتحديدات الاستشراقية قد اخترقت نموذج الاستشراق الالماني والروسي في دراسة مجتمعات الشرق كبنى وتكوينات اجتماعية واقتصادية وسياسية ومعرفية شكلت جزءاً تبادلياً بشأن المخطط الخماسي لتطور المجتمعات البشرية ونمط الانتاج الاسيوي الذي يمثل ذروة الاختراق الاستشراقي المؤسساتي اذ تم اظهار هذا المفهوم كأسطورة خرافية يعيد فرضيات الاستشراق بشأن المجتمعات الشرقية كفضاء سياسي للركود والانحطاط والفوضى وهامشية الفلسفة والثقافة وأخذت الدراسات والابحاث الاستشراقية تبحث في الشواهد الايديولوجية والنصوص العتيقة. والمتون والسرديات الاسطورية عن نظام البنى الاجتماعية والاقتصادية كهرم مقلوب متجاوزة الوقائع التاريخية التي تحكم نظام البنى المعرفية والثقافية.

آليات القوة والهيمنة
تكمن قيمة عمل ادوارد سعيد (الاستشراق 1987) في قدرته على اكتشاف علاقات الهيمنة في بنية الانساق الاستشراقية، وايجاده تلك الصلات الخفية والغامضة التي تتحكم بآليات القوة والمعرفة داخل اثريات تاريخ الثقافة الاوروبية حيث خضع هذا النسق الاستشراقي للنموذج الديكارتي الذي يدعو إلى المعادلة: أن تفهم الشيء من أجل السيطرة عليه ينبغي البدء بالمعرفة أولاً ولكن لا تستطيع أن تعرف وتفهم الشيء إلا بشرط ان تتحرر ولو لحظة واحدة من هاجس السيطرة ذاته. فقد انطلقت قراءة ادوارد سعيد من اسئلة بشأن تمكن النظام الاستشراقي (من وعي الذات عبر وعي الآخر) بعملية تاريخية معقدة (تبويب) (تصنيف) (تخطيط) (اختراع) مجتمعات الشرق، وقد استخدم هذا النظام الاستشراقي أدوات تاريخية ومناهج انثربولوجية وإرث الفلسفة الأوروبية لبناء نسق معرفي تحليلي لهذه المجتمعات. تمركز عمل ادوارد سعيد في... تشكل مادة الشرق لدى دراسته ظواهر الشرق وقد شبّه وحدات المواضيع هذه بالمسرحية الهزلية ذات الشخصيات الثابتة، ذلك إن وراء الخطاب الاستشراقي بمختلف وحداته مجموعة من الرموز والمجازات (العظمة: افصاح الاستشراق) حيث قدم سعيد في عمله (الاستشراق) رؤيا (أثرية) لنظام الثفافة الأوروبية بآيديولوجياتها وبنزعتها الانسانوية والوضعية والانقلابية الفكرية والسياسية والمغامرات الفلسفية (أوروبا متعددة الوجوه) (أوربا الانوار) (أوروبا الامبريالية) (أوروبا الحداثة). نلاحظ إن التطورات التي حصلت في الانظمة الاقتصادية والعلوم والتقنيات والمنظومات الفلسفية والسياسية ما بعد عصر الانوار شكلت معياراً حقيقياً لاختراع الشرق (الآخر) وليس وعي الافراد كذوات أي إن (الشرق الاستشراقي) متشكل من خلال (وعي بنيوي متخيل) هذه العملية الاجرائية التاريخية الكبرى تمت عن طريق تنظيم وتصنيف الرؤية الأوروبية (للقوميات) في مجرى القرن التاسع عشر، و في خليط مثير للدهشة من الاحكام المسبقة بصدد رؤية كل قومية أوروبية للاخرى اولاً وبصدد الرؤية الاوروبية للعالم غير الاوروبي ثانياً. وكانت مرحلة التساؤل والاستفهام والتقصي وتأكيد مكانة أوروبا وموقعها في العالم وفي التاريخ اخذت تندثر، وتتوارى التمثيلات التي شكلت هذا العصر أمام تقدم اليقينيات الهيغيلية الكبرى والمعززة بتطور العلوم والتقنيات التي وظفها ريناث وغوبينو لتشييد نظام هرمي للمجتمعات البشرية يعزز لدى الاوروبيين شعورهم بالتفوق.

المتخيل الاستشراقي
يبدو إن المتخيل الاستشراقي عن الوجود الموضوعي للشرق (كهوية منفصلة) و(فضاء للهيمنة) كان يحدد ما يعززه في لعبة (المرايا المتبادلة) في نظام الثقافة الاوروبية بين مجتمعات الشرق والمجتمعات الاوروبية منذ مطلع القرن التاسع عشر إذ (يعاكس) كل منهم صورة الآخر، ففي قراءة لـ فرانسوا هارتوغ (مرآة هيرودوتس) نجد أن هيرودوتس يحدد من خلال هذه المرآة معالم الحداثة اليونانية القديمة بالاستناد إلى ثنائية (الأنا) المتحضر و(الآخر) الهمجي حيث ان الفالسيقتيون كان من البدو الرحل عند التخوم البلقانية لأوروبا هم الذين أدوا يومئذ دور المرآة لتحديد معالم الهوية الاغريقية المتجذرة في التطور الحضري وما كان لعصر النهضة الأوروبية المفتون بتاريخ اليونان القديم إلا أن يصطنع لنفسه على غرار هيرودوتس مرآة للآخر ليحدد هويته هو ذاته، وسوف يشكل الاسلام أو الشرق اللا معين الحدود الهلالية ذريعة ستساعد على تركيز الهويات السياسية للمجتمعات الاوروبية داخل الرؤيا الثقافية. فالاستشراق نمط من انماط التمركز حول الذات و هو عنصر تشريحي لقراءة انساق السرديات الثقافية والاقتصادية والفلسفية التي يشكلها النظام الثقافي الاوروبي وجزء من الصيرورات التاريخية للافراد والجماعات، فمن الصعب أن نتصور إن (اختراع الشرق) في الفرضيات الاستشراقية تكوّن وتبلور وتشكل خارج (مركبات الثقافة الاوروبية) حيث إن الخطاب الاستشراقي وجد في الشرق نموذجاً لتحقيق اشباعاته في التأسيسات التخيلية وترسيم الهوية واعادة تنظيم التمركزات داخل الفضاءات الاوربية. فهذا الخطاب الاستشراقي يقوم في تأسيساته الاولية باقصاءات متعددة للمرجعية السوسيولوجية (المولدة للمعنى) لكونه يمتلك معنى محدداً (قبليا) وارضية ميتافيزيقية وانساقاً ثقافية عن الشرق ويميل إلى انتاج وتوسيع وتحويل المعنى جزءاً من آليات القوة / الهيمنة.

الخطاب الهجائي
وقد شكل الخطاب الهجائي لأدوارد سعيد للمنظومة الاستشراقية مادة خصبة للقراءات الأصولية الدينية والقراءات القومية حيث العودة إلى انتاج اسطورة الخصائص الدائمة والطابع الثابت والتي نجد جذورها في النظام الميتافيزيقي للثقافة العربية التي تقوم على وجود نظام معرفي خاص يلائم كلا من جوهر الطبيعة الغربية والطبيعة الشرقية على حدة طبقاً لصادق جلال العظم. ان تفكيك هذه القراءات التي تقع في فخ استشراقي مقلوب حيث تسعى إلى (ابدال) تفوق العقل الغربي وديناميكيته بتفوق العقل العربي وهذا معناه (وضع ثقافة فوق ثقافة ووضع فاعل فوق قابل ومعناه بالتالي حذف مقولة التبادل أو التفاعل الثقافي التاريخي بين المجتمعات).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة
عام

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

د. نادية هناوي جددت المدرسة الانجلو أمريكية في بعض العلوم المعرفية كعلم النفس اللغوي وفيزياء الأدب وعلوم الذكاء الاصطناعي أو أضافت علوما جديدة كانت في الأصل عبارة عن نظريات ذات فرضيات أو اتجاهات كعلوم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram