TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الهاربون من الحاضر

الهاربون من الحاضر

نشر في: 11 نوفمبر, 2017: 09:01 م

يتجاذب الناس نوعان من القوى المحرِكة لحياتهم وهما الأمل بالغد والحنين الى الماضي وكلا الأمرين سيتحولان الى عنصرين مدمرين للحياة بالغائهما القدرة على عيش الحاضر وتحويل الأيام الراهنة الى مهلة انتظار عاجزة ؛ فالأمل بالغد والتعويل على قدرة سحرية متوهمة للأمل يدفعنا للاستكانة وتخيل فردوس خيالي ينتظرنا في المستقبل الغامض الذي لم يحن أوانه.
يسهم الأمل غالبا في إعاقة عيش الحاضر وفهمه وتطويره والنمو في أحضانه ، ويتضافر الحنين نحو الماضي مع الأمل حين ينكفيء المرء على الزمن الزائل الذي ماعاد موجودا ويعملان معا على تفريغ الحاضر من قيمته وجدواه لصالح غد غير مضمون وحاضر يسرقه الاستبداد الايديولوجي والسياسي ، وغالبا يعيش كثرة منا في الماضي ويحلم بالمستقبل ليخسر الحاضر الذي يمنحنا القدرة على تقبل أعمارنا المحدودة ويعزز فرصتنا للاستمرار في الحياة ومعايشة واقعنا.
يرى الفيلسوف الفرنسي ( لوك فيري ) إن الحنين والأمل يعملان عمل الكوابح التي تعيق النمو والتطور وتبدد حاضرنا الذي لانملك سواه ، وتتحول الحياة مع شدة التعلق بالماضي والقلق المستديم على المستقبل الى جحيم حقيقي عندما نتوقف وننظر الى حياتنا الماضية والقادمة .
يجعلنا التعويل المفرط على الأمل عاجزين عن إدراك البعد الحقيقي للزمن المعاش ، كما يجعلنا الحنين والتفجع على ماضٍ زائل عبيدا للتفجع على ماخسرنا والخوف مما سيأتي ، وعندما تضاف عوامل الترويع والتهديد الخارجية الناتجة عن استبداد السلطة أو الجماعات المسلحة المتشددة والعصابات - فإن الخوف المضاعف يجعلنا منذورين للموت المتربص ويصادر لحظتنا الحقيقية ، وتعمل جميع أنواع المخاوف التي نكابدها على إعاقة ازدهار الفكر وتنمية العقول والنضج النفسي ، ويصبح الخوف سمّاً فاتكاً يدفع البشر الى الإحساس بالخذلان والخسارة والانكسارات واللاجدوى ويتسبب بالتالي في الانكفاء على الذات وتغذية الأنانية والتحسب من كل ما يقع خارجها ؛ فتتحول الحياة إلى برهة محاصرة بالتهديدات والموت.
يفهم البشر الأمل على أنه التعلق بالحياة ضد الفناء ، وعندما يتحول فعل الأمل إلى نوع من مخدر ، يصبح سببا لاستدعاء الخمول والركود المفضيين الى ضمور قدراتنا وعجز إرادتنا على الامساك بالحاضر والاستفادة من لحظته العابرة.
مع كل مايجري في بلادنا اليوم من استخفاف بالمواطن والوطن بسبب تسلط الفئة الطفيلية الفاسدة على مقادير العراق وحياة الناس والسعي لتدمير الذاكرة الجمعية وتمزيق النسيج الاجتماعي بفرض قوانين تكرس العبودية المشرعنة بخاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة ، يصبح الأمل المسترخي أداة قتل وآفة تفترس إمكانات الحاضر ؛ فهو يخدر الجموع المستسلمة للخوف فتسلم مصائرها للمصادفة التي قد يأتي بها المستقبل الغامض وترتضي واقعها المشين الذي لن يغيره سوى التيقظ والنهوض الواعي الرافض للأمل المجرد، فلا تغيير لواقعنا الراهن بغير استنهاض القدرات والامكانات وتثويرها لحماية الحاضر الذي لانملك سواه في مواجهة التكاثر الطفيلي للفئات الفاسدة المتضامنة بأساليب مختلفة تتجاوز الاشكال التقليدية للاستنكار (كالمظاهرات والبيانات والندوات ) الى وسائل أشد فعالية وتأثيراً وغوصاً في أعماق المجتمع عبر التثقيف المباشر.
يهرب الناس التعساء المرعوبون نحو ملاذ حلمي في مستقبل لايملكون منه شيئاً أو يحتلهم الحنين المرضي إلى الماضي البعيد ، ويمثل هذان الشكلان من الهروب العاجز تصوراً خاليا من الحكمة ومقترنا بجهل حقيقة الحياة التي لاتكون ولاتتحقق الا في لحظة العيش الراهنة ، هذا ماقال به الرواقيون الذين يضادون الفكرة التبتية الشرقية عن سحرالأمل ، فالحياة تمر وتنتهي بينما نحن ننتظر فردوساً متخيلاً قد يهبط علينا من نجم بعيد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. الناقد

    المنشور كلام بليغ ودقيق ويكاد يرقى الى مستوى الحكم وصورة الناشر تدل ايضا على صدق ما جاء بالمنشور 100%

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

باليت المدى: أسد عراقي في متحف

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram