أبت سنتنا هذه ألاّ تودّعنا في أيامها الأخيرة إلا بغصّة فَقْدِ أحد رموز رياضة البارالمبية وفخر تاريخها وربيب الوفاء لرياضييها الذين عاهدوه طوال مشاوير انجازاتهم بأنه مُلهم تحدياتهم وصانع أفراحهم في عز مآسي حروب الوطن وحصار الأشرار وضَنَاكة العيش.
فاخر الجمالي، لاعب الفنون القتالية وعاشق القفز الى مديات رياضية صعبة، وجد نفسه بين ليلة وضحاها أسير كرسيه المتحرّك بقدرٍ ربّاني كاد أن يكلّفه حياته لولا لطفه، أبداً ما فترت عزيمته ولم ينم ماسحاً لدموعه ونادِباً لحظّه أو مستسلماً لضعفه وعجزه، بل راهن على طاقته المخبوءة في قلبه على مواصلة قهر مرضه والبدء برحلة جديدة رافعاً رأسه بين أهله وماضياً الى أعالي نَشَوات النصر الإنساني في ضروب رياضة متحدي الإعاقة.
فاخر الجمالي، له ألف حكاية وحكاية مع شخوص البارالمبية ومحيطها الرسمي وزارة الشباب والرياضة واللجنة الأولمبية والاتحادات والأندية، كان صديقاً للجميع، لم يترك مناسبة لهم إلا وحضرَ برفقة ابتسامته "سفيرة طيبته" يخطُب بفاعليته المعهودة وكلماته المنسابة بثقة والتي بنت شخصيته القيادية من خليط شجاعته ومبدئيته مع عرق كرامته لتصقل مسؤوليته كرجل دولة حريص على سمعة الموقع ونزاهة أفراده وصواب نهجه الساعي لجعل البارالمبية منافساً شرعياً للأولمبية في تحقيق الإنجاز والتفوّق أغلب الأحيان لاسيما في الدورات العالمية، بالرغم من اختلاف النظم والمسابقات ولوازم التحضير.
وإذا ما شرعنا في بوصلة استذكار انعكاسات قِدَم الجمالي في العمل البارالمبي مُذ كانت لجنة صغيرة تضمّ أنفاراً من هواة ألعابها الذين رعاهم ومنحهم الدافع والحافز للإبداع، سنجد أن نفوذه في هذه المؤسسة العريقة وجلوسه زمناً طويلاً أميناً عاماً منذ عام 2003 حتى وفاته 2017، ضارباً رقماً قياسياً في مدة اشتغاله بالموقع بين جميع العاملين برياضة البلد، ونجزم أنه لن يكسر في ظل التغييرات التي طالت جميع الانظمة الداخلية سواء للجنته واتحاداتها أم الأولمبية ومفاصلها الأخرى، نجد أن نفوذه وظِّف لمصلحة مؤسسته وجميع المنضوين إليها من ملاكات إدارية وفنية وطبيّة ورياضيين، ولم تسجّل ضدّه أية حالة تآمر أو تكالب أو اصطفاف لترجيح كفة فلان والإطاحة بعلان مثلما جرت وتجري الأمور في بعض المؤسسات التي غالباً ما يلعب الأمين العام أو أمين السر دوراً مؤثراً في حسم صراعات انتخابية لدعم فرد ومجموعة على حساب الضوابط المعتمدة.
ومثلما ناضل الجمالي في الدفاع عن حقوق الأبطال من ذوي الإعاقة وتوفير الدعم الكامل لهم عبر رسائله الديناميكية المؤثرة لاسيما تلك التي كان يشهدها ملعب الشعب الدولي قبيل المباريات الجماهيرية الكبرى وهو يطوف المضمار فرحاً بتحية الجماهير ملوّحاً بعلم الوطن وسط عاصفة من التصفيق آنذاك، وبدءاً من منتصف عقد التسعينيات، ثم استمرّ بالكفاح الشخصي لدق ركائز اللجنة البارالمبية ما بعد عام التغيير السياسي في العراق الى العام الحالي الذي أنجز مع زملائه مسودة أول قانون للجنة تم تشريعه وفق فقرات موصوفة تتواءم مع الظروف الموجبة التي تعيشها أسرة اللجنة، وهو أنجاز كبير توّج به الراحل مسيرته القديرة قبل أن يغمض عينيه الى الأبد.حقّق فاخر الجمالي أحلامه جميعاً إلا واحداً، تاركاً كرسيّه المتحرّك يحكي قصة بطل من أبطال متحدي الإعاقة، ليكون شاهداً في تتبّع خطاه نحو قمم الشموخ في انحاء العراق والسوح العربية والدولية، وهنا اقترح على المكتب التنفيذي للجنة البارالمبية مفاتحة عائلة الراحل للموافقة على نقل كرسيه من بيته الى مقر اللجنة ويوضع في مكان مناسب تتوسّطه معلومات وافية عنه تكريماً لخدماته النجلاء ووفائه وأمانته لتَعتَبر منه الأجيال المقبلة، آملاً أن يحقق زميلنا هشام السلمان حُلم الجمالي الأخير بإنجاز كتاب توثيقي عن حياته الرياضية كما وعده ويحتفي به إكراماً لرغبة الراحل بعدما شعر أنها لن تتحقق عندما همَّ بتسليم السلمان حقيبة كبيرة من الصور والوثائق عن مختلف الحقب منذ عام 1978 لتكون تحت تصرّفه بانتظار صياغة السلمان البارع لصفحات الكتاب، كي تعود الحقيبة لأهلها ويقرأ أحفاد الجمالي ومضات ثرية في الدروس لبطل عفيف ملء نفسه وزاهد بتخمة قناعاته.
ربيبُ الوفاء
[post-views]
نشر في: 11 نوفمبر, 2017: 04:02 م