| 1-2 |
شهد التاريخ البشري العديد من الثورات والحركات الاجتماعية التي رفعت شعار العدالة والمساواة في التمتع بالثروات الوطنية، ولكن جميع هذه الأحلام تبددت لعوامل موضوعية، ومنها ما تمثلت بالمستوى المتدني للقوى المنتجة والعلاقات الانتاجية وبالتالي انتاجية العمل في المجتمعات التي شهدت هذه الحركات، بما يعني عدم قدرة المجتمع على توفير القدر الكافي من النعم المادية والروحية كي يجري توزيعها بشكل عادل على أفراده. هذا إضافة إلى أن كل الحركات التي رفعت الشعار المساواتي كانت تفتقر إلى معرفة خارطة الطريق للوصول إلى هذا الهدف. لنأخذ على سبيل المثال كومونة باريس التي توصف من قبل بعض المؤرخين على أنها أول دولة أشتراكية!!، في حين أن ثوار باريس، كما تدل الوثائق التاريخية،
كومونة باريس
(18 آذار 1871- 28 أيار 1871)
لم ينتفضوا إلاّ لمواجهة المظالم وأرادوا تحقيق شعار الثورة الفرنسية لعام 1789 القاضي بتحقيق "الحرية والأخاء والمساواة". ولم يستطع ثوار الكومونة سوى فرض سيطرتهم على أجزاء من باريس، ناهيك عن عموم فرنسا، كي يؤسسوا لدولة اشتراكية!!، كما لم يكن لديهم تصور وخطة وبرنامج قادر على استمرارية السلطة الجديدة ومواجهة تحديات الخصوم. ولذا وضع كارل ماركس علامة سؤال على "اشتراكية"الكومونة. ويمكن الحديث أيضاً في هذا المضمار عن مصير انتفاضات مماثلة حدثت في ألمانيا وبلغاريا والمجر بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، دون أن يعني ذلك تجاهل الشجاعة والمآثر والنوايا الحسنة لأنصار هذه الحركات وآثارها السياسية والاجتماعية الايجابية على المسيرة التاريخية لتلك المجتمعات وعلى دول العالم، فالحديث يدور عن إمكانية تحقيق الشعارات والأهداف والأحلام التي طرحتها تلك الحركات.
لقد ركزت غالبية الحركات التي دعت الى إرساء مجتمع العدالة والمساواة او الاشتراكية قديمها وحديثها، بالاساس على نقد الانظمة الاستغلالية والتعسفية القائمة وتحليلها بهذا القدر أو ذاك، ولكنها طبّقت مشاريع لم يحالفها الحظ في النجاح لعدم واقعيتها ونضوج عوامل نجاحها. ولا يسعفنا المجال هنا كي نشير بالتفصيل الى المفكرين الذين حملوا هذا اللواء في العصور الخوالي أو أولئك الذين رفعوا لواء اشتراكية ما قبل الماركسية والتي تطرق اليها البيان الشيوعي كالاشتراكية الرجعية أو الاقطاعية أو اشتراكية البرجوازية الصغيرة أو المحافظة او البرجوازية او الطوباوية، أو الاشتراكية الالمانية و"الصحيحة" في القرنين التاسع عشر والعشرين. الا ان غالبية هؤلاء، إن لم يكن جميعهم، لم يخرجوا في طروحاتهم عن اطار الدعوات الاخلاقية والانسانية، أو في اقصى الحالات الاشارة الى ملامح واتجاهات لتحقيق حلم المجتمع الجديد.
اننا لو تصفحنا ما أبدعه نبوغ كارل ماركس على سبيل المثال، لوجدنا انه قد قدم في مؤلفه الشهير "رأس المال" خير تشريح لجوهر التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية للرأسمالية ووضع اليد على جوهر الاستغلال الرأسمالي وخصائص الرأسمالية، خاصة في القرن التاسع عشر. الا إن ما كتبه كارل ماركس حول التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الجديدة الأرقى؛ أي الاشتراكية والشيوعية، لم تتعد صفحات محددة، ولم تتناول مخططاً متكاملاً ولا مشروعاً لبناء المجتمع الجديد البالغ التعقيد، بل ملامح فحسب. فكل ما كتبه كارل ماركس وفردريك انجلز لم يتعد الاشارات العامة حول سمات المجتمع والدولة الجديدة، مستفيداً من فشل تجربة كومونة باريس. وقد أشار كل من ماركس وانجلز بحق آنذاك إلى أن:" هذه المهمة تقع على عاتق الاجيال التي ستعيش ذلك النظام وستكون اذكى منا ". أما في روسيا، فقد كان برنامج البلاشفة حتى المؤتمر الذي انعقد بعيد استلام البلاشفة السلطة في اكتوبر 1917 هو برنامج ثورة ديمقراطية وليس برنامجا اشتراكيا، وهو البرنامج نفسه الذي اقر بعيد فشل ثورة 1905 الديمقراطية في ثورة 1905 الديمقراطية
في روسيا.
كما إن الحزب البلشفي لم يكن قد صادق بعد على شعار ف. لينين "تحيا الثورة الاشتراكية"، هذا الشعار الذي رفعه بعد عودته من المنفى في نيسان عام 1917 في محطة قطار فنلندا في بتروغراد، ثم شرحه بالتفصيل في كراسه الشهير "موضوعات نيسان". لقد اعتبرجيورجي بليخانوف هذه الموضوعات "ضرباً من الهذيان، فإن شروط الثورة الاشتراكية غير متوفرة في روسيا بعد".
أكد ف. لينين في "موضوعات نيسان" على نضوج قيام الثورة الاشتراكية في روسيا وضرورة الشروع بها. ومن المعلوم ان هذا الشعار، كما أسلفنا، لم يدرس او يصوب في قيادة الحزب، ناهيك عن الجمهرة الحزبية، الا عشية تنفيذ الثورة، حيث لم تتم الموافقة على الشروع بالثورة "الاشتراكية" من قبل غالبية أعضاء اللجنة المركزية ومن ضمنهم ستالين وكامينييف وزينوفييف، والأخيرين كتبا مقالات علنية صريحة حول خطأ الشروع بالثورة . الا إن ف. لينين هدد بالاستقالة من قيادة الحزب في حالة رفض قيادة الحزب لطروحاته وردد جملته الشهيرة "انه لمن المبكر الشروع بالأمس، وسنتأخر اذا شرعنا بها غداً"، مما حدا بغالبية اعضاء اللجنة المركزية القبول بطروحات ف. لينين نظراً للمكانة الكاريزماتية التي كان يتمتع بها لينين داخل الحزب وحتى خارجه.
لقد استندت موضوعات نيسان الى استنتاجات سبق وأن توصل إليها لينين في كتابه "الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية"(عام 1916)، التي انطوت على أول بيان صريح عن حرق المراحل، عندما اعتبر لينين ان "الامبريالية هي عشية الثورة الاشتراكية، وهي الرأسمالية المتعفنة، وان الاحتكار يؤدي الى زوال بواعث التقدم التكنولوجي بل واي تقدم". ولكن هذه النبوءة لم تتحقق لحد هذا اليوم. فالرأسمالية مازالت لديها القدرة على تجديد نفسها وتفادي أزماتها الدورية المتلاحقة، وسوف لن تنهار بين ليلة وضحاها رغم أزماتها ومآزقها، فإنهيارها يحتاج ، كما يبدو، إلى مرور عدة أجيال عندما تتحول الرأسمالية إلى تشكيلة معرقلة فعلاً لتطور القوى المنتجة والعلاقات الانتاجية.
لم يكن لدى الحزب البلشفي في ذلك الوقت أي تصور او أي مخطط متكامل او مشروع لبناء الاشتراكية في روسيا المتخلفة سوى بضع مقالات كتبها لينين بعد انتصار الثورة فمقالات لينين حول هذا الأمر الجدي لا تتعدى بضع صفحات، ومن يطلع عليها اليوم يرى انها لا تشكل الا بحثاً مبتسراً حول بناء هذا المجتمع البالغ التعقيد. ولقد تراجع ف. لينين عن هذه المقالات والاجراءات التي اتخذتها السلطة السوفييتية (الشيوعية العسكرية) لاحقاً بعد شهور بسبب عدم استجابتها لحاجة تطور البلاد التي كانت تمر بأزمة اقتصادية واجتماعية عميقة خانقة. فالشيوعية العسكرية وجهت ضربة لأهم شعارات البلاشفة حول "حلف العمال والفلاحين"، حيث أثارت وسطاً واسعاً ضد هذا النهج الذي ألحق الضرر بمصالح أكثرية السكان؛ أي الفلاحين، ودفعهم في الكثير من الأحيان إلى خوض الانتفاضات الفلاحية ضد السلطة السوفييتية. ففي عام 1920 إندلعت انتفاضة الفلاحين المطالبين بالأرض ضد سياسة التعاونيات التي أعلنها البلاشفة في محافظة تنبوف، وشارك فيها بين 65-70 ألف فلاح من الفلاحين. وتعرضت الانتفاضة إلى القمع على يد وحدات الجيش الأحمر وراح ضحيتها أكثر من 5500 فلاح روسي. ولم تكن انتفاضة بحّارة القاعدة العسكرية البحرية في غرونشتاد في آذار عام 1921 بمعزل عن مطالب الفلاحين بتوزيع الأرض. فقد قدم المنتفضون خمسة عشر مطلباً ومن بينها المطالبة بالتخلي عن فرض التعاونية على الفلاحين بالإكراه وتحرير جميع السجناء المعارضين لفرض التعاونية في الريف.
وعلى ذكر سياسة "النيب"، والتي اقترحها ف. لينين بعد التخلي عن سياسة "الشيوعية العسكرية"، فإنها تمثل عودة الحزب الى برنامج التحول الديمقراطي لما قبل ثورة اكتوبر، وهي مسعى لأضفاء شكل من أشكال رسملة الاقتصاد السوفييتي الضروري والتوجه صوب اقتصاد السوق الذي طال الفلاحين والتجار والمنتجين الصغار. لقد اعتبر لينين بحق إن سياسة "النيب" ستحتاج إلى فترة تمتد طويلا ولمراحل عديدة لا يمكن تحديدها. وبذلك تراجع لينين عن سياسة القفز على المراحل وحرقها، وتعارض موقفه هذا مع موقف التيار المتطرف المتمسك بنهج حرق المراحل و "الثورة الدائمة" وتجاهل مسيرة التطور الموضوعي للمجتمعات البشرية. الا أن سياسة "النيب" تعثرت ولم يكتب لها الاستمرارية كما أكد لينين وانهيت بعد رحيل ف. لينين. كما أن لينين وفي آخر أيامه تراجع حتى عن طابع الثورة الاشتراكي لأكتوبر. ففي رسالة وجهها إلى سوخانوف، عضو سوفييت بتروغراد، في 16 من كانون الثاني عام 1923 قال فيها:" بالرغم من أن روسيا لم تكن مستعدة اقتصادياً لثورة، إلاّ أن تداعيات الحرب الأمبريالية والحماس الذي ساد في البلاد زادا من تأهب روسيا لثورة فلاحية".
لقد كان من الممكن ان يستمر العمل بسياسة "النيب" لبناء البلاد عبر بناء أنماط من الرأسمالية وتطويق سلبياتها الى الحد الممكن، ثم التراكم التدريجي لعناصر واركان الاشتراكية دون ان ينتهي النظام السوفييتي الى هذه النهاية المأساوية في التسعينيات، ودون ان تضيع سنوات من الفرص لبناء البلد. ولكن في جو التطرّف الذي طغى على الحزب، أخذ ستالين كلياً بالتنظيرات المتطرفة لغريمه ليون تروتسكي، لتُزرع في البلاد كل بذور انهيار النظام لاحقاً، والذي تنبأ به حتى تروتسكي قبل اغتياله في آخر مؤلف له وهو "الثورة المغدورة" في عام 1937. ان سياسة النيب ليست عبارة عن برنامج اقتصادي فحسب، بل هي خطوات سياسية أرادها لينين لتجنيب البلاد العنف والفساد والبيروقرطية وتطويقها والتي تصاعدت بشكل مريع، مما دفع لينين الى التعبير عن مخاوفه منها حيث قال:"ستتحول الدولة البروليتارية الى دولة مطليّة باللون الاحمر".
لقد حذّر اشتراكيون بارزون روس من خطر اقدام البلاشفة على استلام السلطة ورفع شعار الثورة الاشتراكية، ومنهم جيورجي بليخانوف الذي يعد "الداعية الأول للماركسية في روسيا". فقد كتب مقالة في جريدة الوحدة في 28 اكتوبر عام 1917 ؛ أي بعد ايام من انتصار الثورة تحت عنوان "رسالة مفتوحة الى عمال بتروغراد" جاء فيها:"انا اشعر بالخيبة لما وقع من احداث في الايام الاخيرة، لا لأنني لا ارغب في انتصار الطبقة العاملة في روسيا، فقد كنت ادعو لها بكل ما أختزن في اعماقي من قوة. لكن علينا ان نستذكر ملاحظة أنجلز التي يقول فيها:"انها لمأساة تأريخية للطبقة العاملة عندما تنتزع السلطة السياسية في وقت ليست مهيأة لها بعد". ان من شأن ذلك ان يلزمها بالتراجع الى الوراء عن المواقع التي احرزتها في شباط وآذار من السنة الحالية. وكان انجلز قد تحدث عن المصير المأساوي لثورة غير ناضجة او قادرة على ضمان سيطرة الطبقة التي تمثلها....إذ يجد المرء نفسه في مأزق، لأن ما يجب ان يفعله لا يمكن ان ينجح، وبالتالي فإن الحزب الذي يضع نفسه في موضع كهذا سائر حتماً الى الهلاك".
اقتحام القصر الشتوي في اكتوبر عام 1917
يطرح بعض الباحثين في موضوعة ثورة اكتوبر المقولة التالية:"لقد شاءت الظروف التاريخية ان تقوم أول تجربة لبناء الاشتراكية في بلد نضجت فيه الشروط السياسية من دون ان يمتلك، بسبب من ضعف تطور الرأسمالية فيه، أي القاعدة المادية المتقدمة التي اعتبرها ماركس شرطاً لانتصار الاشتراكية في بلد من البلدان". فاذا كان ماركس قد اعتبر ان القاعدة المادية المتقدمة هي الاساس في انتصار الاشتراكية، فهو جواب كاف لتعليل فشل أية محاولة للثورة في بلد غير ناضج في قاعدته المادية للانتقال إلى مرحلة أرقى من تطور المجتمع، اقتصادياً وتكنولوجياً وثقافياً وديمقراطياً وفي البناء السياسي. فالحديث عن نضج الشروط السياسية، أي البناء الفوقي يتعارض مع ما يطرحه رواد الاقتصاد السياسي من ان البناء الفوقي هو انعكاس للقاعدة الاقتصادية والتي هي الاساس في تبلور البناء الفوقي. الفكرة المشار اليها أعلاه تقلب الامور رأساً على عقب، وتجعل من البناء الفوقي هو الاساس وتجعل القاعدة خاضعة للبناء الفوقي. بالطبع لا يمكن إلغاء ذلك التأثير المتبادل الذي يبديه البناء الفوقي على القاعدة في سيرورتها. وفي الواقع عند الحديث عن نضوج الشروط السياسية في روسيا، يمكن الحديث تحديداً عن تعاظم مكانة الحزب البلشفي وشعبية شعاراته المتمثلة بالدرجة الأولى بشعاره الذي رفعه حول "السلم والأرض للفلاحين وحق تقرير المصير للشعوب الخاضعة لروسيا"، وهي شعارات لا تنطوي على الدعوة لثورة اشتراكية. لقد أدى رفع هذه الشعارات من قبل البلاشفة إلى تعاظم رصيده الشعبي بعد انتصار ثورة الشعب الروسي في شباط عام 1917 التي أطاحت بالنظام القيصري.
ولكن على الرغم من تعاظم شعبية البلاشفة خاصة بين العمال والفلاحين، إلاّ أن رصيد الحزب البلشفي في الجمعية التأسيسية المنتخبة بعد ثورة شباط بقي محدوداً بسبب قلة عدد مندوبيه قياساً إلى الاحزاب الاخرى ومن ضمنهم المناشفة.
وبقيت هذه النسبة متواضعة حتى حل الجمعية التأسيسية بعد ثورة اكتوبر عام 1917. كما ان عدد مقاعد الحزب في السوفيتات كان اقل بكثير من مقاعد المناشفة والاشتراكيين الثوريين والفوضويين حتى حزيران عام 1917. إن ما جرى بعد ثورة شباط 1917، هو ان غالبية الاحزاب الروسية سواء في الجمعية التأسيسية او في السوفيتات، وخاصة في الحكومة المؤقتة الائتلافية التي أعلنت النفير العام واستئناف العمليات العسكرية على الجبهة الألمانية، وبذلك رفضت على الأخص شعار السلام ووقف الحرب الذي طرحه البلاشفة، هذا الشعار الذي طالبت به غالبية الجماهير الشعبية التي اكتوت بلهيب الحرب العالمية الأولى، مما ادى الى انتقال العديد من مندوبي السوفيتات لصالح البلاشفة وخاصة مندوبي سوفيتات الجيش والاسطول الذين ذاقوا الفاقة والحرمان والقتل والدمار جراء الحرب العالمية المدمرة. ويشير الكاتب صالح ياسر في بحثه "الذكرى المئوية لثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى" إلى الحالة التي عاشها المجتمع الروسي والتي أدت إلى ذلك الغليان الثوري قائلاً:"في بداية عام 1917، كان ما يقارب 16 مليون نسمة يخدمون في الجيش، مما أدى الى نقص في الأيدي العاملة في الريف. وظلّ زهاء ثلث (1/3) اسر الفلاحين بلا رجال، وتناقص محصول الحبوب الرئيسية بشكل كبير مقارنة مع فترة ما قبل الحرب، كما تقلصت مساحة الأرض المزروعة. وبالمقابل تفاقمت المديونية الخارجية لروسيا مما أدى الى زيادة تبعيتها المالية للدول الأجنبية". إن تردد السلطتين التشريعية والتنفيذية (الحكومة المؤقتة) في اعلان اصلاح زراعي يوزع الارض على "الموزيك" والقضاء كلياً على نظام القنانة في روسيا والذي شرع به رئيس الوزراء الاصلاحي الروسي بيتر أركاديفيتش ستوليبين، قاد وسطاً واسعاً من الفلاحين المعدمين نحو البلاشفة الذين غيروا برنامجهم الزراعي، واعلنوا تبنيهم لبرنامج الاشتراكيين الثوريين القاضي بتوزيع الارض على الفلاحين الفقراء وليس تأميم الارض الذي طبق من قبل البلاشفة لاحقاً بعد ثورة إكتوبر. أضف الى ذلك كان الحزب البلشفي في طليعة من طالب بحق تقرير المصير للقوميات المضطهدة غير الروسية، مما عزز الى حد ما من مكانة الحزب في المناطق القومية الخاضعة للامبراطورية الروسية التي لم تكن الأمة الروسية المسيطرة تؤلف في تركيبة البلاد سوى 42 %. فلم تكن البورجوازية الليبرالية الروسية بعد ثورة شباط تريد، لا في المسألة القومية ولا في المسألة الزراعية، أن تتجاوز بعض التخفيفات في نظام الاضطهاد والعنف والتمييز القومي والطبقي. وقد سارعت حكومة ميليوكوف وكيرنسكي "الديموقراطية" بعد ثورة شباط 1917، التي تعكس مصالح البورجوازية والبيروقراطية، خلال الأشهر الثمانية من وجودها، إلى إفهام الأمم المضطهدة موقفها الرافظ بقولها بالضبط: "لن تنالوا الا ما ستنتزعونه بالقوة".
كما انجذبت أوساط أوسع من الجماهير صوب البلاشفة بسبب رفعه شعار "السلم والخبز" في ظل المجاعة التي كانت تعصف بروسيا. إن كل هذه الشعارات الديمقراطية التي طرحها البلاشفة لم تكن ذات مضمون اشتراكي، وقد جذبت جماهير الجنود والعمال والفلاحين على وجه الخصوص صوب البلاشفة، وهو ما تؤكده الوثائق التاريخية السوفييتية نفسها. ولم يكن شعار الاشتراكية مطروحاً على نطاق واسع في المجتمع بالاساس، بل كانت شعارات السلم والأرض والخبز وحل المشكلة القومية هي الشعارات التي تمتعت بالشعبية، وهو سر تعاظم نفوذ البلاشفة في صفوف الجيش والاسطول، اضافة الى تعزز مكانتهم الطبيعية في المحتشدات العمالية أو بين الفلاحين الفقراء بسبب تبني البلاشفة لهذه الشعارات. ولكن مع ذلك، فإن كل ذلك الرصيد الشعبي للبلاشفة لم يشكل بمضمونه "الحركة الواعية المستقلة للأكثرية الساحقة"، كما يشير إليها ماركس، كشرط لانجاز ثورة اجتماعية تسعى لتحقيق المساواة والعدالة في توزيع الثروة وبناء مجتمع خال من الاستغلال.
(يتبع)