خرجت من بيت بيكاسو (البيت الذي ولد فيه بمدينة ملقا الاسبانية) بعد أن شاهدت محتوياته الجميلة، لأَحثُّ الخطى بإتجاه وسط المدينة، نحو متحف بيكاسو، الذي يشغل بناية كانت في الاصل مدرسة للرسم، وكان والد بيكاسو السيد خوسيه بلاسكو (بيكاسو هو اسم عائلة امه) يعطي فيها دروساً بالرسم، وهذا يعني بأنني الآن أقطعُ نفس الطريق الذي كان يسلكه الأب كل يوم. المسافة بين البيت والمتحف لا تتجاوز عشر دقائق مشياً على الاقدام. وطوال هذه المسافة، كان بيكاسو موجوداً في كل زاوية وانعطافة، من خلال الطبعات المختلفة التي تظهر فيها لوحاته، والتي تعرضها المتاجر على واجهاتها، وكذلك الملابس المعروضة التي طُبِعَتْ عليها رسومه، والبطاقات البريدية مختلفة الاحجام والالوان، وكذلك الهدايا المرصوفة في الفاترينات، والتي تحمل لمسات من تكعيبيته الشهيرة. وقبل أن أصل بقليل واجهني وجه بيكاسو بصلعته وضحكته المميزة وهو يصطدم بوجهي، حيث كان ذلك الوجه مرسوماً على (تي شيرت) ومعلقاً في انعطافة مفاجئة قرب أحد المحلات. في هذه المدينة تشعر أن بيكاسو يتحرك معك ويعيش قربك، بل يتبع ظلالك حتى في الأزقة القديمة والشوارع الضيقة.
وبما ان الدخول الى المتحف كان مجانياً هذا اليوم، بسبب اليوم الوطني للمتاحف، لهذا إصطَفَّ الناس في الخارج بصفٍ طويلٍ جداً يمتد الى وسط مركز المدينة. لذلك أجَّلتُ الزيارة الى اليوم التالي. في الصباح التالي عدتُ الى المتحف مبكراً لأتمتع بكنوز ابن الاندلس العظيم. كانت بناية المتحف وتفاصيله المعمارية في الداخل تعيدنا الى العمارة الاسلامية، حيث الاقواس والاعمدة والزخارف، وحتى ترتيب القاعات المصفوفة قرب بعضها بواجهاتها البيض يذكرنا بالاندلس، فهي تحيط حوشاً مربعاً مليئاً بالزهور والشجيرات الصغيرة.
وزعت الاعمال في احدي عشر ة قاعة، وشملت مراحل مختلفة من مسيرة بيكاسو الطويلة. في القاعة الاولى يبرز عمله الجميل (الاغريقيات الثلاث) حيث رسم ثلاث نساء بلون احادي يميل الى الرمادي والازرق، والعمل يعود لفترة العشرينيات، وهو مستوحى من الاساطير الاغريقية. ثم تتوالى القاعات والاعمال، لنطلع بعدها على مجموعة من اعماله النحتية البرونزية التي اختزل فيها الاشكال وحوَّلَها الى كتل مبسطة وخالية من التفاصيل، مثل عمله الرائع (المستحمة). ثم يظهر عمله الأخاذ الذي اختصر فيه تقنيات ومراحل عديدة من التجريب وهو لوحة ( امرأة ترفع يديها الى أعلى) حيث توزيع المساحات وتقاطعات الخطوط والتكوين والحركة. انه واحد من اعماله الرائعة التي تعود لفترة الثلاثينيات قبيل البدء بعمله الشهير غورنيكا. أرفع رأسي قليلاً الى الأعلى، لأرى عمله (رأس ثور) معلقاً أعلى الجدار، وهنا استخدم بيكاسو مقعداً ومقود عجلة هوائية ليكون منهما هذا العمل الشهير. ثم تأتي أعمال الطبيعة الصامتة التي رسمها بعد الحرب العالمية الثانية، بخطوط حادة وألوان تبدو كئيبة. لتظهر في قاعة اخرى مرحلة الخمسينيات التي رسم فيها زوجته الاخيرة جاكلين بطريقة تكعيبية تقترب من التجريد، وتظهر هنا وهي تشبك يديها او تنظر في وجه الرسام الذي احبَّتهُ كثيراً. وقرب هذه اللوحات عرضت مجموعة من التخطيطات التي رسمها لجاكلين ايضاً، وامام هذه التخطيطات نرى مهارة بيكاسو التي تقترب من مهارة روفائيل وريمبرانت، بل ربما تتفوق عليهما. وفي واحدة من الصالات الكبيرة عرضت أعمال السيراميك التي أنجزها بيكاسو، وهنا نتأكد بأن هذا الرجل لم يدع مجالاً في الفن لم يخضه وينجح فيه. هنا نرى اشكالاً لم تخطر على بال أحد وتكوينات تقع بين السيراميك والنحت والرسم وحتى الطباعة!
في القاعة الأخيرة عرضت لوحاته التي رسمها في بداية السبعينيات، وهنا اطلق بيكاسو العنان لحريته في معالجة سطوح اللوحات، حينها تجاوز بيكاسو التسعين من عمره، لكنه مع ذلك كان يقف بكل ثبات ليرسم هذه الاعمال التي وصل حجوم بعضها الى ثلاثة امتار! بعد زيارتي لهذا المتحف، وقبلها لمتحفيه في باريس وبرشلونة، تأكدت بأن بيكاسو ليس اشهر فنان في تاريخ الفن فقط، بل هو الاعظم ايضاً وعلى مَرِّ العصور.
صلعة بيكاسو في شارع ضيق
[post-views]
نشر في: 3 نوفمبر, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...