TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ضمير اللورد بيتس وثقافة التغالب عندنا

ضمير اللورد بيتس وثقافة التغالب عندنا

نشر في: 17 فبراير, 2018: 09:01 م

مراراً أعدت مشاهدة الفديو الخاص باستقالة الوزير البريطاني اللورد (مايكل بيتس) لتأخره خمس دقائق عن جلسة مجلس اللوردات ، وانهالت على مخيلتي صور مخزية لثقافة التقاتل الدموي التي طبعت حاضر بلادنا السياسي المرير، وتساءلت: لماذا يستحيل على ثقافة مجتمع كامل أن تنتج موقفا كموقف اللورد البريطاني ؟ الجواب بسيط : الاقتصاد الريعي والتغالب على سرقته ينتج ثقافة انعدام القيم وفقدان الحياء وإقصاء الآخرين.
لطالما فكر الكثيرون بهذه المثلبة الأخلاقياتية التي شوّهت حياتنا، وجهدوا لإيجاد تفسير لها مستعينين بأدوات التحليل التأريخي والاجتماعي والأنثروبولوجي؛ فأقروا بأننا جماعة بشرية – وأقصد غالبيتنا هنا- تعتاش على القسوة والبطش بالآخرين ممن تعوزهم – لنزاهتهم الاخلاقية- قدرة المواجهة في صراع السطوة السياسية والقدرة المالية ، فنحن نعلم أن هيكل دولتنا مؤسّس بأنساق بنيوية تُعلي شأن هذه القيم البائسة وترسّخ سطوة المعاييرالسائدة لدى الطبقات الحاكمة؛ وبمعنى أدق : نحن لم ندخل بعدُ عصر الأمة - الدولة الذي بدأ في أوروبا القرن التاسع عشر وتطوّر إلى أشكال الحداثة السياسية والإقتصادية السائدة ، وأن كلّ ماحصل لدينا هو قيام الحاكمين باستجلاب السطوة القبلية القائمة على المغالبة وكسر شكيمة العدو المفترض بالقوة الغاشمة وفرضها على المجتمع، حتى أصبح هذا النمط القبلي والطائفي بديلاً لهيكل الدولة وأنساقها الحديثة ، و يشبه حالنا في هذا أن نأتي براعي غنم جاهلاً ليكون مسؤولاً عن مصالح البلاد ومواطنيها بعد إلباسه بدلةً وربطة عنق من تصميم جورجيو أرماني ثم نحاكمه بمنطق علم السياسة وننسى أنه سيتعامل مع البشر بمثل مايتعامل مع قطيع الأغنام باعتبار طاعة الخراف وسيلة تعينه على مضاعفة ثروته وإعلاء مكانته بين مُربّي الأغنام!
هؤلاء الذين حصلوا على المقاعد الأمامية في أجهزة الدولة يتعاملون مع الموقع السياسي بحسبانه إمتيازاً حصرياً لهم وعليهم إقتناص الفرصة السانحة للاستيلاء على الإمتيازات المالية والسياسية كماتفعل الطيور الجوارح المتقاتلة على الرمم؛ فالوطن لدى هؤلاء كيان مريض عليهم التقاتل وكسر شوكة الآخرين من أجل الحصول على أعظم منفعة من إرثه الكبير، وليعش المواطنون في جحيم العوز ولتتعطل المشاريع الثقافية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية طالما ماتت ضمائر الساسة المتناحرين على أموال الدولة.
حدثني صديق بغدادي أنّه حضر جلسة ضمّته مع أحد المسؤولين الصغار في إحدى دوائر الدولة ودار الحديث عن فساد مفضوح لأحد أبناء المسؤولين الكبار، فقال المسؤول الصغير: إنّ الحق مع ذلك الإبن وعقّب: وإنني لو كنت مكانه لفعلت مافعل وأكثر، وعندما استنكر الصديق وسأله: وكيف يجوز لك ذلك؟ أجاب: أليس إبن وزير مسؤول يخدمكم؟ ماذا تتوقع إذن؟ نحن نسترد حقوقنا المسلوبة .
هذه هي حقيقة ثقافتنا الاجتماعية السائدة ، ثقافة النهب والغنيمة ومغالبة الآخر على المال العام، إنها الحقيقة الصادمة وبلا مداراة: نحن أقوام بدوية مطبوعة تأريخياً على قيم الغزو والتنافس والقسوة مع الخصم الذي نتوقع إنه سيمارس القسوة ذاتها معنا إن اتيحت له فرصتنا.
لقد ساهمت الدولة عندنا بإمكاناتها النفطية الريعية الهائلة في تعزيز نزعة الجشع وثقافة التغالب بعد أن تضخمت هذه النزعة وتقنّعت بالتغيير السياسي والتشكيلات الحزبية الملفقة واستخدمت إمكانات البلد لترسيخ سطوتها المدمّرة . أفبعد كلّ هذا ، نتوقّع أن يقدم برلماني أو وزير عراقي من هذا الزمن إستقالته الفورية لتأخره خمس دقائق عن موعد اجتماع حكومي كمافعل اللورد بيتس ؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

 علي حسين عزيزي القارئ.. هل تعرف الفرق بين المصيبة والكارثة؟، المصيبة يمكن أن تجدها في تصريح السياسيين العراقيين وجميعهم يتحدثون عن دولة المؤسسات، وفي الوقت نفسه يسعون إلى تقاسم المؤسسات فيما بينهم تحت...
علي حسين

أزمة المياه في العراق وإيران: تحديات جديدة للاستقرار الإقليمي

د. فالح الحمــراني حذرت دراسة أعدها معهد الشرق الأوسط في موسكو من ان أزمة المياه بإيران والعراق المتوقعة في نهاية هذا العام قد تفضي الى عواقب بعيدة المدى، تؤثر على الاستقرار الاجتماعي في المنطقة،...
د. فالح الحمراني

العراق.. السلطة تنهب الطقس والذاكرة

أحمد حسن على مدار عشرين عاما، تحولت الثقافة في العراق إلى واجهة شكلية تتحكم بها مجموعات سياسية تدير المجال العام كما تدير المغانم. وفي ظل هذه الوضعية لم تعد الثقافة فضاء لإنتاج الوعي أو...
أحمد حسن

لماذا تهاجم الولايات المتحدة أوروبا بسبب حرية التعبير؟

فابيان جانيك شيربونيل * ترجمة : عدوية الهلالي «أعتقد أنهم ضعفاء. الأوروبيون يريدون أن يكونوا ملتزمين بالصواب السياسي لدرجة أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون." لفهم الموقف الأمريكي تجاه القارة العجوز، يصعب إيجاد تفسير أوضح...
فابيان جانيك شيربونيل
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram