بعد بضعة شهور من فوزه بسعفة مهرجان «كان» الذهبية وعرضه في مهرجانات العالم، من بينها مهرجلن دبي السينمائي الدولي، وقُبيل الإعلان عن الفائز الرسمي لجوائز الأوسكار، التي يُتوقّع أن يفوز بها هذا العام، بدأت صالات السينما الإيطالية بعرض فيلم « المربّع» للمخرج السويدي روبين أوستلوند.
وقد قوبل الفيلم خلال عرضه في مهرجان «كان» بترحاب كبير من قبل النقد واستحقّ الجائزة الكبيرة، لجودته ولكون اسم مخرجه تكرّر في قوائم مسابقات عديدة أخرى مُذْ بدأ مشواره السينمائي، مخرجاً ومُنتجاً، في عام 2004، وكان آخر ناله هي جائزة مسابقة « نظرة ما » في الدورة الثامنة والستين من مهرجان « كان » عن فيلمه «فورس ماجّور» - ظروف قاهرة -، والذي تميّز، هو الآخر، كما يقول أوستلوند نفسه، بكونه “رحلة ما بين الكوميديا الساتيرية والدراما”. وحافظ أوستلوند في عمله الأخير أيضاً على الآصرة الغامضة بين هاتين الرؤيتين إلى الحياة والأشياء.
تدور حكاية الفيلم حول ناقد تشكيلي مُختص بتنظيم معارض الفن المعاصر إسمه «كريستيان». يحظى الناقد بتقدير واحترام كبيرين في مجال تخصّصه، وسيحمل المعرض المقبل الذي يُعدّ لإقامته عنوان «المربّع »، وهو عبارة عن تشكيل بنائي يحضّ البشر على تفضيل الإيثار، واضعاً الجميع أمام مسؤولياتهم. لكن أحداثاً تقع في مسار الفيلم تُظهر صعوبة العيش وفق المبادئ التي يؤمن بها ويدعو إليها.
ويتزامن في لحظة واحدة حدثان يقلبان رأساً على عقب حياة «كريستيان » الهادئة رُغم المشاكل الحياتية التي يواجهها، فمن جانب يتعرّض إلى السرقة، ومن جانب آخر. يثير الشريط ردة فعل عارمة من قبل الإعلام، لم يكن يتوقّعها « كريستيان » أو يترقّبها.
كلُّ ذلك يدفع كريستيان، الهادئ والواثق من نفسه، إلى اقتراف خطايا تلو الأخرى، أعسرها ما يقترفه أمام ناظري ابنتيه الصغيرتين.
يعرّي روبين أوستلوند شخصيته الرئيسية، «كريستيان» وأبطاله الآخرين أمام الملأ في ساحة مفتوحة المداخل. وتتحرّك تلك الشخصية، ومجاوِراتُها، في فضاء مفتوح، لكن دون القدرة على الخروج من السياج المربّعي الذي يؤطّر حياتها، فأينما ولّى «كريستيان » وجهه، وجد نفسه أمام ذات المساحة وذات الزاوية، فـ “أضلاع المربع وزواياه متساوية ومتوازية”.
لكن هل يقود ذلك التساوي وذلك التوازي إلى تساوٍ بين البشر وإلى توازٍ ما بين ما هم عليه وما يطمحون إليه؟
ذلك هو السؤال الذي يطرحه المخرج عبر « كريستيان » وبنائه الفني الذي يُشيّده كمعرض للفن المعاصر في المتحف الذي يُديره. ولغرض تشييد القطعة الفنّية المعاصرة يتم هدم وإزالة تمثال كلاسيكي منصوب في منتصف الساحة. إلاّ أنّ التشكيل المعاصر الجديد يعجز عن نيل القبول المطلق من قبل النقد، فيما تسعى الصحافة إلى التنقيب في التناقضات التي ميّزت تصريحات « كريستيان » وتقديماته للمعارض، وصولاً إلى مواجهة بينه وصحفية بريطانية تطالبه بتفسير معاني مقطع غير مفهوم في تقديمه لأحد الأعمال الفنّية، فيجد كريستيان نفسه ضائعاً إلى درجة التساؤل عن حقيقة ما إذا كان قد كتب تلك الجمل بالفعل أم لا.
ليست « الطيبة » إلاّ سلوكاً بشرياً مقترناً باللحظة التي يمرّ بها المرء، ولا تُصبح هذه «الطيبة » خصلة طبيعية ودائمة إلآّ إذا ما اقترنت بالأداء الطيّب المتواصل فعلاً، وإذا ما أردنا اكتشاف طيبة إنسانٍ ما ينبغي علينا رؤيته في لحظات تعرُّضِ مصالحه الشخصية إلى الخطر، بصرف النظر عن مقدار ذلك الخطر. وهذا ما يحدث لـ « كريستيان »، فهو، وإنْ كان مقتنعاً تمام الاقتناع بضرورة السلوك الطيب وبعدالة القضايا الكبيرة، يتهاوى أمام أول اختبار، وهو، برُغم التزامه بقضايا مجتمعية كبيرة وقيادته لسيارة كهربائية لا تلوّث البيئة، لا يتردّد من إزاحة وتدمير نُصب قائم، لتحقيق تشكيله الفني الجديد. هو أبٌ حريصٌ على منح طفلتيه كل الحنان المطلوب رُغم كونه مطلّقاً من زوجته، لكنّه لا يتردّد عن اقتحام مغامرات عاطفية أو لقاءات جنسية عابرة تخلقها اللحظة. وهو مع العدالة في توزيع الثراء والتعامل الإنساني مع الفقراء والمهاجرين، لكنّه لا يتردّد من استخدام المتسوّل المُعدَم كخادم في لحظة الحاجة. هو مناهض لتوصيف المهاجرين باللصوصيّة، لكنّه لا يتوانى عن اتّهام المهاجرين باللصوصيّة عندما يتعرّض إلى سرقة هاتفه المحمول ومحفظة النقود من جيبه، من قبل سُرّاق محترفين، بيض البشرة وشُقر الرؤوس. وهو أيضاً العاجز عن الاعتذار وتلبية طلب صبي مهاجر تعرّض هو وعائلته إلى الإهانة المجتمعية بسبب بيان مطبوع وزّعه «كريستيان » في الحي الذي يُتوقْع أن يسكن فيه سُرّاق هاتفه المتنقّل.
وهو أيضاً، ورُغم عاطفته العميقة مع إبنتيه، من لا يتورّع عن عنف تجاه الصبي الذي لم يُطالبه إلاّ بالاعتذار عن التهمة التي ألصقها به وبعائلته.
يقول أوستلوند عن فيلمه الأخير “ بالضبط كما كان الحال لفيلمي السابق « ظروف قاهرة »، فإن فيلمي الجديد « المربّع » هو عبارة دراما ساتيرية، أردت من خلاله إنجاز فيلم أنيق، بإمكانيات بصرية وخطابية قادرة على تحريض المشاهد وإمتاعه في آن ”، ويُضيف “ كفكرة، يتحرّك الفيلم ما بين موضوعات عديدة، من بينها المسؤولية والثقة، الغني والفقير، السلطة وفاقدي السلطة، تنامي القناعات لدى الأشخاص واندثاره لدى المجتمع. وريبة الدولة تجاه الإعلام والفنون”.
« المربّع » عمل كثيف وعميق بإيقاع حيوي بتواصل، تمكّن المخرج خلاله من تحقيق تجاورٍ جميل ما بين مأساوية الحالة واللمسات الكوميدية، ويظهر ذلك بجلاء في مشهد « ثورة » شخصية أحد أعمال الفيديو آرت المعروضة في المتحف، حين يخرج «الموديل» من إطار العرض، ليُثبّت قانونه الشخصي ويطالب بما سُلب منه عبر وضعه صورةً فحسب فوق جدار عارض.