حدثني أحد الأصدقاء عن شخص آخر قائلاً (لديه موهبة كبيرة لكنه لم يحقق أي نجاح مع الأسف، وهذا غريب جداً). وصديقي هذا لا يعرف مع الأسف أيضاً، إن الموهبة شيء، والنجاح شيء آخر. والشخص الناجح يمكن أن يكون موهوباً كبيراً، ويمكن ايضاً ان يكون محدود الموهبة، لأن النجاح لا يعتمد على الموهبة فقط، بل على تكوين الشخص وحضوره وذكاءه وفرديته العالية، وإن أردت أن أكون ناجحاً فَعَلَيَّ إن أعرف كيف أقدم نفسي بشكل جيد وأتفرغ للمشروع الذي بنيته في ذهني، ولا أحيد عنه، أن أعمل وأجتهد، واجدد التجربة والمحاولات المليئة بالصبر والثقة والسير بقدمين تتحسسان الإحتمالات والحلول قبل الطريق، للوصول الى الهدف الذي أريده.
بيكاسو كان يمتلك موهبة مذهلة، وكان ناجحاً بشكل مثير ولافت، وفي المقابل فأن فنسنت فان غوخ كان ذو موهبة عظيمة ايضاً، لكنه لم يحقق أي نجاح في حياته، حتى أن صديقه الرسام غوغان حين زاره في بيته، قام فنسنت بتحضير الطعام له، وبعد أن تذوقه غوغان، صاح قائلاً بسخرية تدمي القلوب (كنت أظنك لا تجيد الرسم، لكني تأكدت الآن من أنك لا تستطيع الطبخ ايضاً). وهناك أندي وارهول، والذي يعرف كل أصدقاءه بـأنه لا يمتلك شيئاً من الموهبة المتعارف عليها في الرسم، لكنهم كانوا يستغربون حين يرون الناس وهم يحضرون بالآلاف لمعارضه، حتى اكتشفوا بأن هولاء الزائرين كانوا يحضرون لمشاهدة وارهول نفسه، وليس أعماله الطباعية التي يعرفونها عن ظهر قلب، وهذا كله بسبب كونه شهيراً وناجحاً، وكان يبدو كأحد نجوم الغناء بشعره الاصفر المستعار ونظارته الغريبة وملابسه غير المألوفة.
مافائدة الموهبة اذا لم تستثمر بشكل جيد وصحيح؟ هي تشبه الإلهام الذي يبدو شيئاً غامضاً وغير واضح المعالم، وربما غير موجود أصلاً. لأن الفن التشكيلي يتعامل مع المواد الخام والمتريال، والمهارة هنا تـأتي بالمرتبة الاولى، ووجودها شيء أساس في نجاح التجربة، أي بدونها لا وجود للعمل الفني، وهنا لا أقصد المهارة الكلاسيكية، بل هي كيفية التعامل بشكل مناسب مع أدوات الرسم أو النحت والسيراميك وغيرها، كيف تُعالج السطوح التصويرية بطريقة مؤثرة وتحمل الكثير من الحساسية، كيف نختار التكوين الملائم للعمل الفني، وهذا لا يأتي إلّا بالعمل.
كان بيكاسو يرسم لوحات كبيرة وهو واقف لساعات طويلة رغم تجاوزه التسعين من العمر، وحين سألته زوجته ذات مرة عن هذه الطاقة الغريبة، قال لها (انا ارسم بروحي وليس بجسدي، لهذا لا أشعر بالتعب، فأنا عند الرسم أخلع جسدي وأتركه عند باب المرسم كما يترك المسلمون احذيتهم أمام باب المسجد).
اذن عليك ان تركل الكثير من حجارة الطريق لتصل الى مبتغاك، وَعَدوِّكَ الكبير هو أن تجعل الباب موارباً، فهذا هو عدو النجاح الأول، فأما أن تفتح الباب بشكل جيد، أو تغلقه وتبحث عن باب جديد، يساعدك في ايجاد الحلول التي تناسب موهبتك، حتى وإن كانت صغيرة. فالموهبة الصغيرة مع التفاني في العمل، هي أفضل من موهبة كبيرة نائمة.
تبقى الموهبة في النهاية، مثل قطعة نقود، علينا أن نستثمرها بشكل جيد، فأحدهم يمكن أن ينفقها على قارعة الطريق بشكل عابر وغير مفيد، بينما شخص آخر يشتري بها جريدة المدى ليتمتع بقراءة ... هذا العمود!!
الباب الموارب، عدو النجاح
[post-views]
نشر في: 10 فبراير, 2018: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...