TOP

جريدة المدى > عام > ولكنها غير هذا الكلام الجميل

ولكنها غير هذا الكلام الجميل

نشر في: 11 فبراير, 2018: 12:01 ص

 دائماً ما أقول بخطأ الحكم على جمْع وأن لكل فرد حكمه. الأحكام العامة فيها أما بذخ وإسراف في الإكبار وإما إفراط وغلو في الانتقاص والحكم. في الحالين هو ليس حكماً سليماً إن لم يكن ظالماً. وفي كل الأحوال نحن وهم، أنت وسواك، بحاجة حقيقية لإنقاذٍ، لحكمة ولما أعطاه اللاهوتيون المسيحيون اسماً جميلاً هو "النعمة الإلهية". نحتاج لهذه النعمة لنهدأ ونريح أرواحنا ونرتضي الاخرين بأحوالهم أو لا نرتضيهم لكن بلا حِدّة أو إيذاء. اللطف مطلوب لمن نحب واللطف مطلوب لمن لا نراه كما نريد فقد يتكشف حالٌ منه لا نعرفه. ومن غير الصواب أن نتفحص الحال الانساني بطريقة العلم. العلم يتفحص المواد بتفكيكها. الحي غير الجامد والعاقل ليس جهازاً ولا حجراً لنعرف مكوناته. الإنسان مخلوق حي تتغير حاله وتتغير أفكاره وله أمزجة ويستجيب لما يمسّه أو يهزه ولما يتذكر ويسمع ويرى. الحكم اليابس لن يكون ابداً حكماً عدلاً.

لكن لماذا نحن في معترك وبلا قرار ونعلم إن الكون وحدة تامة مقدسة قائمة منذ دهور ودائمة لدهور والناس على الارض من زمن تعيش؟ أظن كل الصدامات، كل مواجهات الفرد وما يعقبها من ارباك عيش وتنغيص ولا قرار، ورائها الانفراد للـ "أنا" ومحاولة ان تظل متحكمة وقاطعة ودون ذلك اعتراض ورفض لناس وظرف وقوانين عيش.
أمنية هي اليوم ساعاتُ الهدوء الجميل والارتياح الناعم وانسجام الأنا مع الكون أو مع العالم بديموته وبما فيه. نحن في عزل أنفسنا، في محاولة إيجاد استقلال وهمي ومكانة متسلطةً وسط عالم مختلط لا يصفو ولا يسمح لأحد بتملكه، يعني اننا نتلبس وهماً تواجهه الصدمات، تواجهه قوى واضحة وخفية مجهولة، لتعريه ولتعيده الى طبيعته الانسانية العاقلة وليرضى بشروط العيش بين ناس هم أيضاً يريدون أن يعيشوا. التمرد على قوانين العالم الأبدية مصدر إقلاق للذات ومصدر دائم لعذاب يومي لا يترك العيش الذي نريده رغداً. كما هو سبب تيهٍ أحياناً يعودُ صاحبه بعد دوران كثير ليجلس في زاوية وقد ارتضى بالحياة كما هي وبحال العالم كما هو. مبادئ العيش في الارض ليست هي تلك الاحوال الطارئة التي نرفضها او نعدلها او نتمرد عليها. الآني، الظرفي شيء وقوانين العالم الابدية شيء آخر أكبر، لا فرصة للعيش خارجها.
لكن الرضا الذي أشرنا له ليس سهلاً دائماً. هو يحتاج الى صفاء، الى قناعة بوجودنا الطبيعي في الكون الذي غوامضه ما تزال أكثر مما اتضح لنا حتى اليوم واننا نضيع الحياة الكبيرة حين نريد صناعة حياة معزولة عنها، حياة تصنعها تصوراتنا الطارئة .. ما كل تمرد يستحق الثناء. التمرد على مبادئ الحياة في الأرض ووجودنا بين احياء آخرين، بشراً شجراً حيوانات وبيئة وتضاريس، تمرد غير حميد وغير حكيم ويورث ندماً. وحتى هذه التمردات قد تصل بنا لمراحل اشتباك بين الإنسان وبيئته وبين الإنسان ومشاركيه في العمل او في السكن او في مسالك الحياة. ذلك لإن الأنا هنا تريد تأكيد حضورها الخاص في فضاء ليس كله لها. كيف نفرض ما نريد، ما يوافقنا، والناس، كما نريد، تستجيب لنا؟ العالم شرْطُه الانسجام مع القوانين الابدية، ونحن نريد التحكم في عالم ليس لنا. العالم لنفسه وللناس فيه!
ذلك ما ظل مزمناً ومن اشكالات الفكر واهتمامات الفلسفة عصراً بعد عصر. هو اليوم أكثر وضوحاً في الادب وفي الفنون. هو قلق الكتّاب وقلق كل فنان ومنتبهٍ لذاته، وقد رغبت أو طمحت أو ضاقت ذرعاً أو امتلك صاحبها في العالم المعيش تصوراً آخر وسكنته خلافَ غيره رؤيا. وبعضنا لا يجد سلاماً إلا في حلم أو كتاب. فأفضل ما يستطيع مرهفٌ مثل هذا ان يفعل لكي لا يضيع في الصخب هو أن يظل ملموماً مثل طائر غريب، غير قادر على فهم العالم فلا يستطيع الا الكتابة ليهرب، لينقذ نفسه او ليصنع عوالم من ورق. سمعت، قرأت لكتّاب عديدين، شعراء ورسامين وعازفين، انهم ينتابهم الرعب من غرابة العالم، من فوضاه ومئات الاشياء المشتبكة فيه. حسناً، يقول واحدهم، نشرب جعةً أو نلعب ورقاً ..، لكننا ننتبه فجأة، فنفزع من مجيء الموج!
الأدب اليوم يصور لنا متاهات الانسان وهو يريد ما يرضيه او وهو يبحث عن معنى. هذا حقه نظرياً وليس حقه في كل حال أن يلغي واقعاً بشرياً محكوماً بشروط العيش. من هنا يبدأ الإشكال القديم الجديد، إشكال الذات والواقع، الأنا والآخرين، وكيف تكمل الروح انطلاقها بين كلا حصار الواقع ومفردات الطبيعة و الأنواء وحقوق الأرواح الاخرى.. الناس يألمون مما في هذه، لكنهم هم أيضاً يجدون سعادات في السوق والملعب والمكتبة والعمل والاسفار أو في الجلوس بصمت ينظرون لما يجري ويفكرون بما كان، لا يفارقهم خيط هناء انساني من ذلك الذي يبعثه الرضا في العزلة.
هو كلام وضده. لكن تبقى لنا حصتنا من "النعمة الإلهية". لنا ساعة الحكمة، ساعة سلامة الرؤية وسلامة العقل وسلامة الخطاب للناس والحياة. في أوقات كريمة مثل هذه يصبح الضد ناعماً وواحدنا نظيفاً رضيّاً ونحن في سلام مع الحياة، وقد عرفنا ما هيَ وما فيها. نشعر بدعة وراحة ناعمة عبر الكثير من متاعبها. الخيوط الحريرية ما انقطعت بيننا وبين الناس والحياة. وأنا أرى المعترك الكبير وتراكض الهائجين، أقول : لو تبقى دائماً تلك الخيوط الحريرية، لو أنها لا تغيب!
أكان مجدياً كلام النصح؟ وهل أجدت المواعظ و الحِكَم تحذرنا مما وراء الشطط ومن الاستهانة بقوانين الحياة؟ لماذا إذاً ظل يعيدها على الناس الرسلُ والحكماء ومَن اتّعضوا متأخرين؟ قال راهبٌ يوما: "كنت أحدث واحداً بما ينفعه، بمثل هذا الكلام، فقال لي، وما خلا كلامه من ردع : "يداك ناعمتان. أنت لم تعرك الدنيا ولم تشتبك معها. هي شيء آخر غير هذا الكلام الجميل" ...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram