TOP

جريدة المدى > عام > "النبيذة" لإنعام كجه جي: الفن عندما ينقذ التاريخ من الإهمال

"النبيذة" لإنعام كجه جي: الفن عندما ينقذ التاريخ من الإهمال

نشر في: 8 فبراير, 2018: 12:01 ص

في روايتها الاخيرة " النبيذة " تربك الروائية انعام كجه جي أفق التوقع الذي يرافق قراء أعمالها السابقة ، حيث تغيب اللغة الصحفية اليومية، لصالح بناء بلاغي رصين، ربما استعارته من لسان بطلتها "تاج الملوك" التي اتقنت العربية الكلاسيكية عبر حفظ عيون الشعر العربي في مجلس زوج أمها، حتى ليخيل اليك أحيانا إنك تقرأ " آلام فيرتر " بترجمة أحمد حسن الزيات، حيث اللغة المعجمية وإيقاعها المدوي وانسيابيتها الهادرة ، وهذا بالطبع يحسب للمؤلفة، ويؤكد قدرتها على التنقل بين مستويات العربية برشاقة تحسد عليها، لأنها، وبحدسها الفني وخبرتها، استطاعت أن تبتكر صياغات تناسب زمن ومزاج بطلتها. فلا يمكن "لتاج الملوك" ضيفة البلاط وصديقة أهم زعيم سياسي في تاريخ العراق، وابنة اول تجربة صحفية في البلد، إلا أن تتحدث بهذة النبرة التي تشبه عصرها .

 

هذه الرواية الجديدة، هي الاخرى، بالاضافة الى " الحفيدة الامريكية " و " طشاري " تتمركز بؤرتها السردية حول حياة سيدة، عاشت مراحل تطور الدولة العراقية الحديثة وأفولها . فإنعام كجه جي بغدادية مسكونة بفكرة بغداد الحلم، والمقترح الملكي لظهورها كعاصمة فريدة ومتفردة في الشرق الاوسط، يستهويها كثيراً أن تعيد انتاج تلك اللحظات الفارقة في حياة مدينتها، عبر أعمالها الأدبية بشخوصها المتخيلين، أو المنقولين من الذاكرة الى الأدب ، لكننا في هذه الرواية نعيش حياة أبطال واقعيين ركنتهم الاحداث المتسارعة الى النسيان ليقضوا سنواتهم في مدن بعيدة تفصلها المحيطات عن بعضها.
بطلتها الصحفية "تاجي عبد المجيد" وحبيبها الفلسطيني "منصور البادي" ومرافقتها في رحلة آخر العمر الشابة "وديان الملاح" ، هولاء الثلاثة وما يدور حولهم ، أو ما داروا هم حوله من وقائع مع رموز سياسية وشخصيات تصنع أو تؤثر في تاريخ بلدانها، كلهم اشخاص حقيقيون من دم ولحم ، نعرفهم جيداً ونتوقع ردات فعلهم دون مفاجأة ، والأكثر أهمية هنا، هو أن الأحداث في مجملها قد حصلت بالفعل ، وحدثت من دون مبالغات . إنها رواية أرشيف وتفاصيل مروية بدقة من لسان ابطالها في الحياة . استطاعت المؤلفة أن تنقلهم من غبار الأيام المنسية الى مستوى الفن عبر بناء سردي محكم ، تتطور فيه الاحداث وتتقاطع دون ارتباك أو جنوح خارج المتن ، فالحياة بحد ذاتها هي رواية تحتاج الى خبرة وفضول صحفية متمرسة مثل انعام وموهبة سرد من مثل التي انطوت عليها . وبدون ذلك، فان الأحداث ستبقى حكايات تروى شفاهة وتموت في النسيان. وهذه هي المهمة الصعبة، التي تكفلت بها المؤلفة، عندما انبسطت أمام عينيها مئات الوثائق، واستمعت لأيام طويلة لمئات الحكايات، لتؤلف منها عملاً فنياً يمسك بياقة القارئ حتى الجملة الاخيرة، ليس فقط ليستمع لنهاية الحكاية، وإنما ليتم معها شهقة الذهول التي رسمتها له وهو يتنقل بأنفاس متقطعة بين أغنية بغدادية ومثل شعبي وقصيدة جاهلية ومزحة محلية عراقية او شامية، مأخوذا بسحر العبارة وقوة المفردة وهندسة انزياح الأحداث في بناء معماري، أقل ما يمكن وصفه بالمذهل، ينمو نمواً تصاعدياً مثل تونات البوليرو التي تهمين إيقاعاتها على تطور السرد، وتمنحه ذلك القدر غير المبالغ به من التشويق .
في الرواية تصغي الى هدوء الوصي على عرش العراق ونظراته الأرستقراطية ونبل إيماءاته، وأساليب تعبيره المتحضرة حيث يرسل اعجابه بالموسيقى ، ثم يتدخل نوري السعيد بصوته الجهوري وهو يتحدث لغات عديدة ، ويبدل لسانه بين تنويعات لهجات مختلفة، يجمع من خلالها خيوط اللعبة السياسية المعقدة بين بيديه . وتلتقي نخبة المجتمع من شعراء وفنانين وحزبيين مدفوعين بروح الثورة والتمرد الأهوج للحاق بمستقبل غير واضح المعالم .
في بغداد وكراتشي وباريس وعبادان والقاهرة تتابع كجه جي مغامرات بطلتها العاطفية، وصعود نجمها من طفلة مشردة مع أمها هجرها أبوها ، لتعيش تحت سقف زوج الأم المتلفع بالفضيلة والذي لايتردد في اعلان شهوته أمامها، ثم تلقي بجسدها عارية مشتهاة كموديل لرسام بغدادي، ينشغل عن تأوهاتها بباليتته وألوانه. لنصادفها مذيعة بالعربية في باكستان التي تستقل للتو عن شقيقتها الهند، الى جاسوسة فرنسية مجندة في مصر تخطط لاغتيال المناضل الجزائري بن بلة . امرأة حسناء مثيرة ولعوب، تشتهي وتنتقي وتعشق وتورط عشاقاً آخرين. تعيش حتى التسعين من عمرها على أمل الحب ، سكيرة عبثية ومتهتكة دون قيود، قديسة صوفية الوجدان تقرر في لحظة جنون تلاوة القرآن بطراوة صوتها وتسجل بعض سوره ليستقر ألبومها لدى شركة فيرجن .
تعيش سنوات وحدتها في باريس مع شابة عراقية ، كانت عضوة في الفرقة السيمفونية دمر ابن الرئيس السابق حياتها وسرق منها اهم مانحتاجه لموسيقاها " سمعها " عبر حفلة تعذيب صورتها المؤلفة بطريقة لا يمكن نسيانها، كما لو إننا أمام مشهد سينمائي لستانلي كوبريك ، في فصل دموي ووحشي، هو الأجمل من بين فصولها تصوراً وكتابة، ويدل على البراعة التي تمتع بها المؤلفة، وقدرتها على تحويل البشاعة الى مقطع من الجمال، وهذا بتقديري هو من أصعب المهام التي يرميها الفن أمام المبدعين، ففي مسرح البربرية هذا عشنا لحظات ترقب مخيفة ونحن نشهد هذا القدر من القسوة.
في الفن وحده تبعث حفلة تعذيب من هذا النوع كمية مفرطة من الجمال القاسي وهو يخترق الروح دون أن يشوهها .
قد تكون اللغة اليومية للصحافة قد غابت عن صفحات هذه الرواية، لكن الروح المتقصية الفضولية قد رافقتها في كل فصولها، فالمؤلفة لم تترك قراءها دون شروحات وتوضيحات واستغراق بالتوصيف والرجوع الى الوثائق والقواميس، التي تخص حيوات أبطالها من كراتشي حتى كراكاس مروراً بالقدس في لحظة النكبة وما سبقها وما تلاها، لتكشف عن خفايا وأسرار النخب السياسية في كل الجغرافيات التي مر عليها ابطالها دون أن تنسى إشباع رغبتنا بجرعات ثقافية عن هذه الامكنة وناسها واساليب عيشهم ونمط تفكيرهم، من مخيمات مشردي فلسطين الى سجون فنزويلا وشواطئ كراتشي وصالونات عبادان حيث كانتونات النخب التي تنفصل عن الحياة العامة وتمارس عبثها بعيدا عن ضجيجهم .
وكما تستعين بالغناء الشعبي فان المؤلفة تستعين ايضا بالشعر العربي والفارسي والموسيقى الكلاسيكية والفن الحديث بنسخته الانطباعية وما بعدها . لا تترك أثراً او لوحة أو نصباً فنياً دون أن تتوقف عنده بلمحة ذكية ومن غير أن تفسد علينا متعة السرد، أو تُشعرنا بورطة المثاقفة كما يفعل الكثير من الكتاب .
انعام كجه جي بارعة في تنويع مشاهد حكايتها ، تقص وتلصق وتمحو وتحذف وتطور وتسترسل، حيثما استدعت الضرورة الفنية. تهبط بك في جملة شعبية عابرة مغرقة في محليتها، ثم تحلق بك في سماء من التوهج الذي لا يستطيعه غير من تمكن من العربية وطوع معانيها لمبانيها، لا اللغة تتقدم الحدث بجمالها ولا القصة تنزاح ابعد ما هو مرسوم لها .
هذه الرواية واحدة من هبات إبداع انعام كجه جي ، التي تحيلنا بعد قراءتها الى ركام تهدم تواً تحت قسوة الزمن، الذي لا يرحم حتى "تاج الملوك" وتهورها ومعاندتها للسنوات العابثة، وهي تعيشها بارادة مراهقة تتشوق لأول لمسة عاطفية اصابتها برعشة الحب حتى عندما تقف على مشارف التسعين من عمرها .
بقي أن أقول إن "وديان الملاح" وحياتها الخاصة ومتعها الحسية المغلقة على دائرة جسدها وحاجاته، هي من البراعة التي لم نألفها في الأدب العربي، ليس بسبب من طغيان حسيتها الجنسية، بل من الروع الوجودي الذي يسببه الخوف من تقدم ماكنة الزمن على رغبات الجسد المندفعة بلا هوادة. في مشاهد ساخنة لا أثر لاي تفريط او مبالغة فيها . فاي لغة هذه التي ابتكرتها انعام لكي تصعد بالرغبة من شهقات بطلتها الى سماء من اللذة الفنية الخالصة، وهي تنتقي لكل نأمة وإيماءة وشهيق وزفير وتنهد ونفور وشهوة ما يناسبها من المفردات وما يخلصها من ابتذالات الجسد الى رعشة الجمال الصافي . لتقدم درسا إبداعيا في الارتقاء بالحس الجسدي الى مصاف التصوف الروحي .
بروايتها " النبيذة" تؤكد انعام كجه جي إنها روائية كبيرة حقاً ، أخذت الصحافة الكثير من وقتها ومنحتها حس تقصي التفاصيل الصغيرة التي ينام بينها شيطان الابداع .
كنت أقول إن الأدب العربي يعيش تحت سقف واطئ من المغامرة ، حتى انتهيت من "النبيذة" ورأيت الغيوم الكثيفة محملة بالمفاجآت .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

البنك الدولي: 53 مليار دولار تكلفة إعمار غزة خلال 10 سنوات

ارتفاع أسعار صرف الدولار في الأسواق المحلية

منتخب الشباب يتأهل إلى ربع نهائي كأس آسيا

إيران: أي استهداف للمنشآت النووية يعني اشتعال المنطقة بأكملها

3 مباريات جديدة في دوري نجوم العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram