انّ المجتمع الخاضع للأنقسام الديني والطائفي وتوزع الطوائف تحت مظلات رموز وكارزمات وقبائل وعشائر كبرى وصغرى تناسلت سريعاً يبقى محفوفاً بالمخاطر،لأنّ الخروج – هكذا يبدو – من الحرب تجعل الكل ضد الكل كما قال هوبز وهنا مكامن المخاطر الراشحة ايضا عن فشل الجماعات في التمكن من الأختيار وتحديد الأنتماء .ولابدّ من وعي المثقفين لمثل هذه الظاهرة التي عّرفتها الأنثروبولوجيا وشخّصت مخاطرها.
دور المثقف جوهري وحيوي ويتضح أكثر أهمية في المحافظات التي تعيش صراعاً طويلاً وعميقاً تغذيه أحلام وافدة.لكننا نلاحظ وللأسف ظهور ظاهرة التنوعات الثقافية الحادة والعنيفة وتوظيفها من أجل خدمة أطياف هلامية. وأنا أعتقد بأن فعالية كبرى مثل مهرجان المربد إذا تمكنا من ضبط فعالياته ونجحنا بتحقيق الأنسجام بين المشاركين وفق تعدد المجالات الثقافية والمعرفية ،سيكون له – المربد – تأثير مهم وحيوي،لكني أرى بأنه مازال في مساره القديم ولم يبتكر انموذجه الخاص والذهاب نحو الشعر،لأنه مقترن بالبصرة والأنتباه لمجال الفكر والمعرفة ضمن فضاء المربد وبمكان غير مكان الشعر،ليس منطقياً أن تتجاهل البصرة فعاليات للمعرفة وهي مازالت تشعّ بغبطتها الأولى شعرياً ومعرفياً وتحقق مثل هذه المبادرة التي ستسجلها ذاكرة الثقافة لمربد البصرة ضمن ما اختزنته من سرديات .وأنا واثق تمام الثقة من النجاح المضمون لمثل تلك الفعاليات القادرة على مراقبة السائد الثقافي العنفي وبذل الجهود من أجل إنقاذ العلاقات المجتمعية وتنقية الروح الحارسة للمدن. وعلى الرغم من أن هذا الحلم صعب ومعقّد ،لكنه يفتح أفضية يجب الخوض فيها،لأن المخاطر جسيمة،ومازالت تهدد وجودنا الأنساني والحضاري. الثقافة وسيلتنا الكبرى المنقذة من العتمة الزاحفة علينا بسرعة وأحيانا ببطء .للثقافة مجدها في تأسيس مفاهيم وأفكار النهضة التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر،ونجحت عبر تراكمها بأنتاج الأمن الثقافي،الذي أنقذ مصر ممن خراب كبير،واستطاعت الظفر بهويتها الوطنية الكبرى .وأعتقد بأن الدور المصري انموذج فريد،وعلينا الأستفادة منه كلاً أو جزءاً ولدينا قاعدة مهمة،تميزت وبوضوح في تمثلات فكر وثقافة النهضة منذ بداية الدولة العراقية.
لكن ما ينقصنا هو المشروع الخاص بالحاضر،والستراتيجية المستقبلية وعلينا الشروع بالممكن ولنجعل من المربد لحظة الشروع بسبب وفرة الدعم وهو أمر حسن على الرغم من الكامن السياسي وراء ذلك .لذا أنا واثق بأن المربد وبجهود الأصدقاء في هيئة الأتحاد وحواري الطويل معهم ،قادر على اختيار محطته الجديدة وأن لايكتفي بما كان مهيمناً ولم يتمكن مع كل الدعم الخيالي من مغايرة النمط والتقليد والمظاهرالكرنفالية .لم يكن كل هذا من وظائف المربد،بل تمظهرلثقافة الجماعات المتخندقة وراء مباهج مؤقتة. هذه الفعاليات لاتقترح نوعاً من العلاقة بين الهوية والثقافة ولا تبتكر صلة وثيقة بينهما. ممكن تشكل الهويات عبر الثقافات المركزية والفرعية باستمرار الفعاليات الثقافية مثل المربد وكرنفالات اخرى في المدن العديدة والمدعومة من وزارةالثقافة والسياحة والآثار،لايمثل ظاهرة ايجابية كبرى بل صورة تمظهر عن ضعف وارتباك أو تشوش الفعاليات اليومية. لذا أنا أكثر ميلاً للكشف عن التحشيد للمؤقت والسكوت على ماهو أكثر فاعلية وأهمية،وهذا أمر أدركته عبر فعاليات اتحاد الأدباء المستمرة وبكثافة.
الجوهري ضرورة وجود مشروع لكل محافظة مع تصورات تتمظهر بمدينة معينة،وليس بالضرورة أن تكون المشاريع متماثلة،لأنها ستكون نمطية وأكثر الأضرار هو ما تنتجه نمطية العمل الثقافي.
كما قال هارلمبس وهولبورن :
لم يتحدث علماء الأجتماع الوظيفيون عن الشعر وأهميته ،بل قالوا الكثير عن الثقافة بمعنى
الفنون ،لكنهم اهتموا كثيراً بالثقافة في إطار القيم وأساليب الحياة. والوظيفيون بشكل عام تناولوا قضية الثقافة الاجتماعية وفق رؤية تطورية ،فكان جلّ تركيزهم على الطبيعة المتغيرة للثقافة والمرتبطة بتطور المجتمع .
وما دامت الثقافة ذات أصل اجتماعي،فأنها قادرة على مراقبة التحولات المتحركة في ذلك الأصل ومعاينة حركتها وهي القادرة على خلق سيرورات وقياس قدرتها على تحقيق اصطفافات فاعلة ومؤثرة .وهذا ما نحن بحاجة إليه وسط الثقافة الدينية وأحلامها الساعية لتعطيل كل ما يسعى لتأهيل الذوق العام،وتشكيل وعيه وتفعيل العقل النقدي،بوصفه مخلصاً ومنقذاً والتوجه نحو التنوير الذي اعتبره كانط : التفكير بطريقة عقلانية في أشياء الحياة الأنسانية وفق أهميتها وتأثيرها في مآلية الأنسان.
كذلك يعني خروجاً من حالة القصور الذي يكون فيه مسؤولا عنه.
أخيراً أعيد التذكير بما قاله جيل دولوز :هيراقليطس جعل من الوجود ظاهرة جمالية لاظاهرة أخلاقية أو دينية .