TOP

جريدة المدى > عام > قلق الثقافة وحصيلة الأدب

قلق الثقافة وحصيلة الأدب

نشر في: 4 فبراير, 2018: 12:01 ص

أحياناً أحس بضرورة الكتابة في موضوع ، ثم ارتد بسبب ما اقرأ عما يقاربه فاشعر بمللٍ من التكرار وكثرة التقول فيه. لكني يوماً بعد يوم تتجسد أمامي ظاهرات أحاول غض النظر عنها وهي تتسع بشكل صعب تجاوزه. من هذه انحسار الاهتمام الحيوي والحقيقي بالادب. وكونه انحساراً عن أدب اليوم والنتاجات القريبة منا زماناً ومكاناً، مقابل بقاء الكلاسيات، بل الشوق اليها وطبعات جديدة بأعداد واضحة تعود - هذا يعني اننا بأزاء إشكال مركزي له علاقة بالإقناع. وإن ثمة فقر في محتوى الكتابات الجديدة ومحدودية آفاق، لا سعة وانفتاح آفاق تدعوان القراء اليها.

 

شعرت بهذا أولاً من انحسار قراء الشعر. وما يطبع منه يدفع الشعراء أنفسهم ثمنه ليوزعوه من بعد مجاناً. ونسبة مايقرأ من هذا المجاني لا أظنها تتعدى الخمسين بالمائة، وهذا أغلب الظن كثير... هناك بضعة شعراء تتبناهم دور النشر إما لاعتبارات الاسم والتاريخ وإما لاعتبارات ودية أو تقديرا للاسهام والتعاون في كتابات اخرى.
في هذه السنوات الاخير نفسها تسارع الانتاج الروائي ولا أحد ينكر امتياز بعض منه لكن سرعان ما طغى عن الحاجة وبدأت تتكوم العنوانات وبدأ التباطؤ في البيع. وعدا استثناءات محدودة، الباقون، وهم الكثر ,يطبعون على حسابهم الخاص، وهم، كم نلاحظ في وسائط التواصل، يعلنون ويمجدون وينبهون لأهمية العمل وان فلاناً كتب عنه والصحيفة الفلانية قالت فيه.. وهكذا الاعمال المهمة التي لفتت الانتباه ، بدأ ما تبعها يخفت وتكدست الروايات لدى الباعة اذ استسهل الكثيرون كتابتها وطبعها كما استسهلوا الشعر مذ صار نثراً، فكسد ذاك وكسدت هذه.
هذا موضوع يحتاج الى بحث موضوعي يستكشف أسبابه الاجتماعية والثقافية. صحيح نحن نرى حضوراً شفاهياً لشعر الاستياء السياسي وهو امتداد لما كان من شعر خطابي في هجاء الأوضاع الاجتماعية وظروف العيش المزرية وفساد الحكم، في هذا استجابة لهموم الناس حنقهم وله مستمعوه. والى جانب هذا نجد بعضاً من شعر الحب او المكبوتات الجنسية وغالبه سطحي فقير المضمون حد الأسف.
لكننا، عموماً، بصدد أدب له أبعاد فكرية ومضمون حضاري، ومدى تأملي. كما نطمح الى اجتهاد اسلوبي وفن شعري متقدم، لا أن يظل شعر غضب وإثارة قريباً من الشعبي ، نحن نريد ادباً تهمنا قراءته ونبحث عنه لنشتريه !
فهل يكون هذا الافتراض وراء العودة لقراءة الآداب الكلاسية والأعمال التي تعود الى القرن التاسع عشر أو انه وراء التشوق الكبير والواضح للنتاج الحديث المترجم؟ وهل السبب أن ذاك يقدم فناً أدبياً أكثر تماسكاً ومحتواه أكثر غنى وأبعد دلالات؟
حقيقة، أنا لا أستطيع، بدرايتي المحدودة أن أقطع برأي وأحيل كل ظاهرة الى أسبابها، لكن وأنا اقرأ وأسمع، أحس بفقر واضح في النتاجات المطروحة والاستثناءات الاجتهادية القليلة هي بقية نار تقول بأن الابداع مايزال وإن الموقد يتقد وثمة دفء وحتى النقد الادبي المصاحب لهذه النتاجات، فبالرغم من تقديري لذكاء ومتابعات مجموعة طيبة من النقاد الجدد ومن اسهامات بعض من الاكادييمين العلمية الرصينة، نحن أيضاً نشهد الكم الكبير من اللفظية، ونشهد ايضاً استغفال الناس بامتصاص كتابات نقدية مترجمة معروفة وإعادة كتابتها بتطبيقات محلية، ولا أظن احداً من المعنيين بالأدب غافلاً عن استهلاك مراجع لا تتعدى المائة والمائة وعشرين مرجعاً في الرسائل والاطاريح والدراسات. هذا فقر آخر، لكنه لا ينسبنا الكتابات الذكية والاجتهادات المحترمة وان كانت قليلة وسط هذا الكم .... اذاً هي الظاهرة نفسها في الشعر وفي الرواية وفي النقد. وما أزال أرى أن تتولي المسألة دراسة اكاديمية، علمية، لاحماسات وادعاءات ولا أراء شخصية قد تتغير من قاريء الى آخر. تريد أن نعرف وأن نفهم الظاهرة ولتصويب نظرنا الى المشهد، كما هو لا كما افترض ويفترض سواي. فهل لي، وقد بدأت الكلام أو الإشارة الى الظاهرة أن أقول بسبب؟ حسناً، إذا قلت بشيء وغيري يرى شيئاً آخر وثالث ورابع، سنكون على بينة أو على بعض العلم.
شخصياً، أرى ارتباكاً ثقافياً وأن المُنتِجَ الادبي، وهو بطبيعته مرهف سريع وعميق التأثر، واجه خضات اجتماعية مرعبة مؤسفة، فما أن انتهى من ارباكات وخوف ورعب وامتهانات السنوات التي اعقبت 1958 واعقبت انتقامات وتصفيات 1963، والحروب وعسر مابعدها، واجه قصف البلد ومنشأته ومعه سلامه وأحلامه. ولم تشف بعد الآمه القديمة ودماره النفسي، حتى اهالت السنوات الأخيرة الوحل واغلقت الطرق بمخلفات القرون الوسطى.
ستقول هذا شأن اجتماعي ونحن نتحدث عن الظاهرة الادبية والابداع الجديد أقول: نعم هذا أربك التراكم الثقافي وبعثر توالي الرؤى وتقدم المنظور الروحي والعقلي، وأضاع على الناس أوقاتهم التي كانت للقراءات الطويلة الجادة حتى إذا استيقظوا وجدوا جديداً مترجماً يصل، وانهم ينتقلون في القراءات من زمن الى زمن تحت رحمة مايصل اليه من كتب مترجمة مختلفة الموضوعات والمصادر.
والملاحظ ان كلما شهد الوسط الثقافي كتاباً مترجماً ذا نوعية فريدة متقدمة او جديدة وجدنا اصداءه في الكتابات المحلية، فلا تمضي فترة سكون وتكرار حتى يهز الركود كتاب مترجم مهم، ويحفز على الكتابات موضوعه واجوائه.
لامؤاخذة على هذا، على العكس هو دليل نشاط فكري وقدرة على الآستيعاب والتوظيف ويشير الى ظمأ الادباء الى الجديد ويحفزهم الدائم وتسابقهم للتطور. التثقيف بالجديد واقع حال في الشعر والرواية والنقد وهذا يعني ايضاً، ومن غير شك، الفقر في ثقافتنا والحاجة الى نضج الآخر وغناه. نحن ناس موضوعيون نريد أن نقرر حقائق ولا بأس من ان يضيرنا بعض الكلام.. كيف يمكن اذًا ، ان نغير آليات التثقيف والتواصل مع الجديد المتوالي، والذي لايصلنا منه، للاسف، الا النزر، ويصل متناثراً؟ هذا موضوع يحتاح الى مؤسسات وبرامج. لتكن لهذه المؤسسات مشاريعها الابعد، لا بأس، نحن نريد ان نطلع على جديد الاكاديميات ومنتجي الادب الكبار والنظريات والبحوث الجديدة. واظن التوسع في التمكن من اللغات الاجنبية الرئيسة سيكون تمهيدا جيداً ومفيداً للمستقبل. الكاتب البريطاني يعرف في الاقل ثلاث لغات، لغته الانكليزية والفرنسية والالمانية او اللاتينية. والكتب المهمة من كل لغات العالم مترجمة الى لغته تتوالى امامه في المكتبات كل يوم. ماذا بين يدي الكاتب العراقي؟ هذه بضعة الكتب المترجمة التي تصل، منها القديم ومنها الجديد ومنها الترجمة المسخ !
ضمن انغلاق الدائرة هذه والظروف السيئة والمدمرة للذوق والمدنية والزمن الثقافي، برز كتاب واضحو التمكن. ماذا لو احاطتهم ظروف مثالنا الكاتب الانجليزي وآداب العالم وافكاره، ومن كل اللغات، مترجمة تتوالى عليه فلا يدري ما يختار وما يقرأ؟ أظن الافتقار الى هذا الخصب يعني هذا الفقر الذي نشكو منه...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram