TOP

جريدة المدى > عام > غواية القراءة: كيف نجمع ماركس وروسو وآدم سميث في رواية عن النضال؟

غواية القراءة: كيف نجمع ماركس وروسو وآدم سميث في رواية عن النضال؟

نشر في: 3 فبراير, 2018: 03:25 م

تتم كتابة الكتب من أجل تأكيد وحدة البشر وبالتالي الدفاع عن أنفسنا أمام الوجه الآخر القاسي للوجود: الزوال والنسيان.

ستيفان تسفايج

|       10       |

لا أتذكر أين قرأت هذه العبارة التي يقول صاحبها إن:"القراءة فعل من أفعال الحياة الخاصة"، هذه الحياة التي نتعرف من خلالها على كُتاب لن نراهم، لكننا نتعلق بهم ونحبهم ويصبحون جزءاً من حياتنا، وفي كثير من الأحيان لاتهمنا العبارة التي يضعها المؤلف في بداية كتابه، مثلما فعل غوستاف فلوبير في مدام بوفاري:"كل شخصيات هذا الكتاب متخيلة، والبلدة التي عاشوا فيها لاوجود لها في الواقع"، لأن قراء مدام بوفاري على مدى أكثر من مئة وخمسين عاماً منذ أن نُشرت الرواية عام 1856 يؤمنون أن هناك سيدة في هذه البلدة قد انتحرت بسبب الآم الحب، واليوم فأن زوار المدينة التي عاش فيها فلوبير يجدون لافتات تدعوهم لزيارة قبر مدام بوفاري. يقول أورهان باموق:"أن تحمل كتاباً معناه انك تمتلك عالماً آخر، عالماً يمكن أن يجلب لك السعادة". أثناء فترة مراهقتي كانت الكتب التي أتمنى قراءتها هي التي تَكشف لي ماذا كان يجري في هذا العالم؟، وكان أحد الاصدقاء يستفزني دائما وهو يتحدث عن كتب لم أسمع بها من قبل، ويسألني باستمرار عنها دون أن أكون قد حصلت على واحد منها. وذات يوم فاجأت هذا الصديق بان قلت له إنني قرأت رواية عنوانها"العقب الحديدية"اسم كاتبها جاك لندن، وذهبت بي الجرأة إنني كتبت عن الرواية ومؤلفها موضوعاً انشائياً سلمته الى مدرس العربي الذي وجدته يشجعني على كتابة مثل هذه الموضوعات.
شَغفت بجاك لندن الذي أدخلني عالماً لم أكن أعرف بوجوده من قبل، وتحمستُ له بشدة ورحت أبحث عن كتبه في مكتبات شارع السعدون فوجدت له ثلاث روايات وكتاب يضم مجموعة قصصية، وزاد اعجابي به بعد أن عثرت على كتاب صغير لاتتجاوز صفحاته المئة وسبعين صفحة من القطع الصغير كتبه الباحث والمؤرخ في الأدب الشعبي والتراث عبد الحميد العلوجي صدر عن سلسلة كتاب الجماهير بعنوان جاك لندن، وما زاد اعجابي بـ جاك لندن وحماسي له، إنني في ذلك العمر لا استطيع أن أقارنه بأحد لأنني اكتشفت آنذاك إن صاحب رواية العقب الحديدية حاول أن ينقل في رواياته تجاربه الشخصية وما خبره من عنف وقسوة في الحياة، ومن سطوة الرأسماليين الجشعين في مدنٍ مرّ بها مع أشباهه من المغامرين الفقراء والمهمّشين. يقول عن تأثره بقراءة ماركس وآدم سميث وجان جاك روسو:"أنا ابنُ الطبقة العاملة. في سن الثامنة عشرة، وجدتُ نفسي في الهاوية أكثر من السابق. كنتُ في قاع المجتمع، في الأغوار العميقة للبؤس الّتي ليس من المناسب واللّائق الكلام عنها. كنتُ في حفرة، في هاوية، في بالوعة الجنس البشري، في فوضى أو مقبرة جماعية لحضارتنا"، ثم نسيت جاك لندن وضاعت كتبه وسط الأصدارات الجديدة التي كنت أقتنيها، والغريب إنني لم أحاول أن أبحث له عن كتب جديدة، ومرت السنوات حتى تصادف وأنا أعيد ترتيب مكتبتي وجدت النسخة القديمة من رواية"العقب الحديدية"ففرحت بعثوري على صديق قديم بعد فراق أكثر من ثلاثين عاماً، وأخذت أقرأ في الرواية واسترجع بعض الفقرات التي ذكرتني بمتعتي القديمة، وفي القراءة الجديدة اكتشفت انني لم أفعل في صباي شيئاً سوى الاعجاب بكلمات ابطال الرواية. والآن مطلوب مني أن أفعل المزيد، القراءة الجديدة للرواية جعلتني أسأل بعض الاسئلة الجادة عن الثورة والنضال والاقتصاد السياسي، ووجدت نفسي مطالباً بالبحث عن إجابات عن هذه الاسئلة.
ظلت كتب جاك لندن تطبع في أوروبا حتى بعد مرور قرن على رحيله.وكان هذا الكاتب غالباً ما يصنف بكاتب رحلات، لكنه في زمانه كان الكاتب الاميركي المعبر عن القرن الجديد، جريء ومثير للفضائح وواثق من نفسه. توفي فجأة وهو في الاربعين من عمره - ولد عام 1876، ومات عام 1916، كتب خلال حياته القصيرة خمسين كتاباً وتسكع عبر القارات الخمس. لكن أطول رحلاته لم تكن مرسومة على الخرائط، بل كانت رحلته الشاقة من الفقر الى الغنى التي تسلح فيها بإرادة قوية استطاع من خلالها أن يتخطى وظيفة العامل البسيط ليصبح الكاتب الشهير الذي ظلت سيرته تجذب القراء أكثر من كتاباته. كان جاك لندن إبن بيئة شعبية والده كان يوصف بانه دجال من الدرجة الاولى، مُنجم يتجول في أنحاء اميركا ليلقي محاضرات عن الحظ والحب والتنجيم، فيما كانت والدته تكرس حياتها لمهنة تحضير الأرواح، في سنتها الخامسة والعشرين هربت من بيت أهلها، لتلتقي بوليم تشاني المنجم، فعملت معه مديرة لمنزله، وعندما اخبرته انها حامل منه طلب منها ان تجهض نفسها، فهو غير مستعد للزواج، وفي كانون الثاني عام 1876 ولد"جاك تشاني". وبعد أن هرب والده الحقيقي الى بلدة اخرى، تزوجت أمه من جون لندن، نجار أرمل لديه سبعة أطفال، وبسبب صعوبة العيش اضطر جون الأب أن يتنقل بعائلته عبر العديد من المدن حتى استقر أخيراً في أوكلاند ليعمل حارساً ليلياً في الميناء، أما الأم فقد استمرت في مهنة تحضير الارواح وكانت كثيراً ما تصرخ وتبكي بسبب الفقر الذي ظل يلازمهم. يكتب جاك لندن في يومياته:"لم أعش أبداً فترة الصبا، ويبدو إنني أسعى للبحث عن صباي الضائع. كان جاك الصبي يستغل فترات إستراحته من الدراسة والعمل بقراءة طبعات تجارية من روايات تشارلز ديكنز وفكتور هيجو وفي سن الثانية عشرة عثر على نسخة قديمة من دون كيشوت:"قضيت مع هذا الكتاب المذهل إسبوعا كاملاً، حرمني خلالها النوم والأكل". في الثالثة عشرة من عمره ترك المدرسة ليعيل عائلته بعد أن خسرت أمه كل ما أدخرته في المراهنات. عمل في البداية في بيع الصحف، ثم عاملاً في مصنع للتعليب، بعدها في ورش للنجارة حيث اعتاد أن يعمل أكثر من 12 ساعة يوميا ويقرأ سبع ساعات وينام خمس ساعات فقط، ويصف لنا في قصته"المارق"المنشورة ضمن مجموعته القصصية"تحت سماء الجليد"التي نشرتها مجلة شعر في ستينيات القرن الماضي بترجمة"جوفر حداد": في صباح اليوم التالي نزعت أمه جسده من قبضة النوم. ثم أتى دور الإفطار الهزيل، فالسير على الأقدام في الظلام، بينما يطل الصباح بضوئه الشاحب على أسطح المنازل التي أولاها ظهره وهو يدلف من بوابة المصنع. كان مجرد يوم من الأيام المتشابهة. تحول جاك إلى صبي مشاغب بسبب العمل المتواصل والحرمان من اللعب، فأنضم إلى عصابات الفتيان الذين يجوبون أرصفة موانئ أوكلاند، لكنه كان يضمر أحلام الصبي حتى وهو يتشاجر كالرجال".
ثم ما لبث الصبي ابن الخامسة عشرة أن اشتهر بحبه للبحار، فقرأ في المكتبة العامة للمدينة كل ما يتعلق بالبحر، فقرر أن يعمل ملاحا ليبحر عام 1893 في السفينة"سوفي سذلارند"الى اليابان، ولما عاد الى بلدته بعد سبعة أشهر كانت البلاد تعاني من أزمة اقتصادية حيث أفلست معظم البنوك وأصبح الحصول على عمل من المعجزات، لكنه استطاع أن يجد عملاً في إحدى القطارات، مهمته نقل الفحم وقد طاف الولايات المتحدة الاميركية لمدة عام، ليعود بعدها الى أوكلاند ليدخل المدرسة من جديد وفي السنة التالية يجتاز امتحان القبول في الجامعة، لكن الحاجة لإعالة والدته وزوج أمه المريض وابنائه اضطرته ان يترك الجامعة بعد اشهر ليذهب في رحلة للبحث عن الذهب، وفي هذه الفترة يتعرف على كتابات الأشتراكيين الفرنسيين من أمثال سان سيمون وفوريه وبرودن، ويقرأ كتابات ماركس التي تسحره، إلا أن الكتاب الذي ظل يرافقه كان من تأليف اقتصادي انكليزي اسمه"آدم سميث"صاجب الكتاب الشهير ثروة الأمم وكان كتابه الذي غير حياة جاك لندن بعنوان"نظرية المشاعر الاخلاقية".
********
إن تعلم القراءة هو بمثابة إشعال نار، وكل مقطع يمثل شرارة.

فيكتور هيجو
يكتب جاك لندن في يومياته إن الفقراء هم من يصنع الثروة. الذين ينهضون قبل الفجر ويحرثون الحقول وينتجون السلع. والطبيعة الحيوية لعملهم تمنحهم الحق في أن يكرمهم جميع من يعلونهم منزلة على درجات السلم الاجتماعي، لم تكن دعوة جاك لندن هي الأولى فقبله بمئة وخمسين عاماً كتب الفيلسوف الانكليزي ديفيد هيوم كتابه"نظرية المشاعر الاخلاقية"وفيه يقول انه يشعر بامتنان عميق نحو اولئك الذي زرعوا الأرض وبنوا المنازل وأسسوا المدن والمجتمعات الكبرى ذات الثروات المشتركة وابتكار كل وجوه العلوم والفنون وسائر ما كرم الحياة البشرية وزينها، وهو مابدل وجه العالم تبديلاً تاما، إذ جعل من الادغال الفجة للطبيعة سهولاً مقبولة وخصيبة ومن المحيط القاحل غير المطروق معينا جديداً لأسباب العيش.
كتب آدم سميث كتابه"نظرية المشاعر الاخلاقية"عام 1759، وكان يبلغ آنذاك الخامسة والثلاثين من عمره، والكتاب عبارة عن محاضرات كان يلقيها في درس الاخلاق، حيث عمل استاذا للمنطق في جامعة غلاسكو، ويعد هذا الكتاب اشبه بمقدمة لكتاب ادم سميث الكبير"ثروة الامم"الذي نشره في لندن عام لندن عام 1776، في أكثر من ألف صفحة، والذي بنى فيه نظريته الأساسية في الاقتصاد والتي لخصها بنقطتين بسيطتين يقول في الأولى إننا لا نعيش في المجتمع بفضل كرم القصاب أو الخبّاز، أو المزارع حتى وإن كان هؤلاء يوفرون لنا الطعام الذي نعيش من خلاله، بل إننا نعيش بفضل نظرة هؤلاء إلى مصالحهم الخاصة، تماماً كما أننا نحن بدورنا لا نقدّم الخدمات التي توفرها مهننا للآخرين إلا بالنظر إلى مصالحنا المرتجاة من تلك الخدمات سواء كانت مادية أو غير ذلك،. ويقول سميث"نحن عندما نسعى إلى الحصول على خدمات الآخرين من أصحاب المصالح والمهن، كما عندما نقدّم خدماتنا إلى الآخرين، لا نتوجه إلى ما لديهم من حس إنساني، بل إلى إدراكهم مصالحهم الشخصية. وبالتالي، فإننا حين نسعى للحصول على إنتاجهم، لا نخاطبهم انطلاقاً من رغبتنا في أن يتفهموا حاجاتنا، بل انطلاقاً من توجهنا إلى مصالحهم الشخصية". أما التأكيد الثاني فهو ذاك الذي يقول إن الفرد:"في سعيه إلى تحقيق مصالحه الخاصة، غالباً ما يحقق مصالح الجماعة في شكل أكثر فاعلية ما يمكنه أن يفعل حين يعمل باسم المصلحة العامة. وأنا (آدم سميث) لم أصادف في حياتي أي عمل خيري من لدن أولئك الذين لا يكفون عن الإعلان بأنهم إنما يعلمون من أجل المصلحة العامة".
والحقيقة إن آدم سميث وهو يقدم لنا افكاره عن الاقتصاد في هذا الكتاب الضخم أراد أن يؤكد على مفهوم واحد، هوأن العمل هو الأصل وهو الذي يؤدي الى تراكم الثروات وازدهار الأمم.
ولد آدم سميث في الخامس من حزيران عام 1723، كان والده المحامي المعروقف قد توفى قبل ولادته باشهر، مما جعل امه تسجل اسمه في سجلات المدينة باسم ابيه"آدم سميث"، لا نعلم إلا القليل عن طفولته، فكاتب سيرته جيمس بوكان، يخبرنا بان أدم سميث كان بطيئاً في الفهم مما اضطر أمه أن تستشير عمها الكاهن الذي أوصى أن يأخذ دروساً في الكنيسة، ومن الأحداث المهمة التي أثرت على حياته، انه تعرض للخطف وهو في سن الثالثة على يد مجموعة من الغجر، وبقي عندهم فترة من الزمن حتى تمكن خاله أن يعيده الى أمه، بعد أن تعلم القراءة في الكنيسة دخل المدرسة ولاحظ المعلمون انه لايرغب في الدروس بقدر شغفه لقضاء وقت أطول في المكتبة، دخل جامعة اكسفورد من خلال منحة دراسية، وخلال سنوات الجامعة تمكن من دراسة النصوص الكلاسيكية في الأدب والفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع، لكنه فجأة يترك الجامعة ليتفرغ للكتابة والقراءة وبفضل الصلات التي تربطه بالفيلسوف الانكليزي فرانسيس هاتشون الذي درس على يديه في الجامعة، استطاع أن يحصل على وظيفة محاضر في الأدب وفلسفة القانون، وقد حظت محاضراته باهتمام ومهدت الطريق للإنتقال الى حياة مهنية جديدة، ففي عام 1751 عاد للجامعة لإكمال دراسته ليعين بعدها استاذاً للمنطق وفلسفة الاخلاق والبلاغة في جامعة جلاسكو. وفي تلك الفترة انتشرت أفكاره حول علاقة الاقتصاد بالاخلاق بعد ان نشر كتابه الاول"نظرية المشاعر الاخلاقية.
عندما نشر سميث كتابه هذا كان في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان يريد من خلال كتابه هذا أن يبين لنا إن افكارنا وافعالنا الأخلاقية ليست إلا نتاجاً لطبيعتنا باعتبارنا كائنات اجتماعية، وفي الكتاب يحدد آدم سميث القواعد الاساسية للإهتمام بالنفس والعدل اللذين يحتاجهما المجتمع للبقاء، ويشرح الأفعال الاضافية الخيرية التي تمكنه من الازدهار حيث يرى اننا جميعاً نهتم بمصالحنا الشخصية، لكن مطلوب منا أيضاً أن نعرف كيفية العيش مع الآخرين دون الإضرار بهم، لأن هذا هو الحد الادنى الضروري لبقاء المجتمع، وفي قضية العدل يرى سميث إننا إذا أردنا بقاء المجتمع، فلا بد ان تكون هناك قواعد للحيلولة دون ايذاء افراده بعضهم بعضاً، ويتمثل العدل ضمن مفهوم سميث في الكيفية التي يدافع بها المجتمع عن نفسه ضد أي ضرر، وفي موقفه من الثروة نجد إن اراء سميث ربما تصدم الذين يعتقدون إنه منظر للراسمالية، فهو يؤكد إن وسائل الراحة المادية التي يمكن شراؤها بالمال ما هي إلا تفاهات، فليس بمقدور الغني أن يتناول من الطعام مقدار ما يتجاوز قدرة الاخرين على الأكل، وربما ينعم العامل في كوخه بنوم أهنأ من نوم الملك في قصره العظيم. فالثروة تعجز عن انقاذنا من الشعور بالخوف او الحزن أو الموت، بعدها يحدد سميث طبيعة الانسان الفاضل، فهو يرى إن هذا الشخص يجسد صفات: الاهتمام بالنفس والعدل وعمل الخير وهناك أيضاً صفة رابعة هي صفة ضبط النفس. بعد سبعة عشر عاماً وبالتحديد عام 1776، يكتب سميث في مؤلفه الضخم ثروة الامم:"اذا زال العدل، فلا شك ان النسيج العظيم الهائل للمجتمع البشري.. سيتفتت إلى ذرات في لحظة واحدة".

******
حقق جاك لندن الشهرة والثروة، لكنه كان عليه أن يعيل العديد من الأقارب، صار يكتب 100كلمة في اليوم ويدخن مئة سيجارة. حذّره الأطباء والأصدقاء من عواقب نمط الحياة التي يعيشها، لكنه كان يجيب في كل مرة:"اني افضل ان اتحول الى رماد على ان اتحول الى تراب".
في روايته"العقب الحديدية"يقدم لنا تلخيصا للأوضاع الاقتصادية التي عاشتها أميركا قبل أكثر من قرن من الزمن، حيث يسلط الأضواء على ذلك الصراع بين اصحاب رؤوس الاموال وبين العمال الذين كانوا يجهدون للحصول على الخبز والعدالة، الرواية التي لاتزال توصف بانها لوحة ملحمية للكفاح الثوري ضد الاستغلال قال عنها تروتسكي في يومياته:"لقد خلّف هذا الكتاب تأثیراً قویاً في نفسي، أقول ذلك بلا مبالغة. لیس بسبب میزاته الفنیة وحسب، بل جرأة الكاتب واستقلال توقعاته في مجال التاریخ". فيما أشاد بها جورج أورويل لكونها نبوءة رائعة جدا لصعود الفاشية،
أذهلت لينين الذي اعتبر جاك لندن اول بلشفي عالمي، فيما دفعت مكسيم غوركي لان يكتب:"تعلمت من أخي في النضال جاك لندن ما لم أتعلمه من كل كتب الفلسفة".
يروي جاك لندن حكاية بطل الرواية"إرنست ايفرهارد"بعد مقتل زوجته التي كانت قد مهدت لأحداث الرواية بقولها:"عقدت العزم على أن أفرغ، في فترة الانتظار القلق هذه للكتابة عن زوجي. إن ثمة ضوءاً كثيراً أستطيع أنا وحدي من دون جميع الأشخاص الأحياء أن ألقيه على شخصيته".
ونجد جاك لندن يضع نفسه محل بطل الرواية وينعى نفسه مبكراً، وأن ثمة من سيسرد حكايته. فبطل الرواية يرى أنه حين يطلق كلمة السر ستنهض جماهير العمال في أرجاء العالم كله. وتضيف زوجته عنه:"كان روحاً عظيمة، وحينما يصبح حبي عارياً عن الأنانية لا آسف على شيء مثل أسفي، لأنه ليس هنا حتى يشهد فجر الغد."
وتتحدث زوجة إرنست كيف تعرفت على زوجها عام 1912، وتدعو الآخرين إلى اكتشافه كما اكتشفته هي، وكيف أثـّر في الآخرين، فهو حين يجادل الميتافيزيقيين وفلسفتهم يحجمهم، ويرى أنهم لم يقدموا خدمة للجنس البشري. فهم"معتوهون وفوضويون في دنيا الفكر ويفزعون إلى وجدانهم لكي يفسروا ذواتهم ويفسروا الكون."
وتسرد زوجته قائلة:"كان الزعيم المعترف له بالسبق في فلسفة الاشتراكية، وكان لا يزال في العاشرة من العمر عندما مضى ليعمل في المصانع، كان ذا ثقافة ذاتية، رزقه هزيل عن طريق ترجمة المؤلفات العلمية والفلسفية، أبهجتني براعته وأفزعتني في وقت واحد معاً، طائش حتى لقد وجدت نفسي أعتبره حبيباً وزوجاً".
يطرح ارنست قضية الصراع الطبقي، ويصل تأثيره إلى الجامعات حيث يفضح ذلك النظام الذي وصفه بنظام لا اخلاقي جشع، ونجد أسقف الكنيسة مورهاوس الذي يبدي اعتراض على اراء ارنست، إلا أنه في النهاية ينصاع لصوت الحق فيهجر الكنيسة ويصبح مطارداً مثله مثل الكثيرين أمثاله.
يدافع إرنست عن العمال ويهاجم وكلاء الشركات الفاسدين الذين يلوون أذرع الحقيقة ويرون أن القانون شيء والحق شيء آخر:"إن حضارتنا التي نفخر بها مبنية على الدم، منقوعة بالدم، وليس في وسع أحد الهروب من اللطخة القرمزية".
وسرعان ما تحولت الأمور إلى معسكري الطبقة العاملة والعدو الراسمالي، بعد أن تعذرت الأمور لإيجاد قواسم مشتركة بين الفريقين، هاجر فيها مَن هاجر واختبأ فيها مَن اختبأ وتحولت إلى حرب طاحنة بين الجائعين والمتخمين، واشتعلت حرب كثرت فيها المطاردات وسالت فيها الدماء غزيرة في الشوارع، وكان من أبرز ضحاياها إرنست نفسه، وبلغ اشتراكيو سائر العالم أكثر من ثلاثة وعشرين مليوناً يوحد بينهم الجوع وفقدان العدالة وأهمها عدالة الأجور، فكان صوت إرنست طاغيا ويتردد صداه وهو نفسه صوت جاك لندن:"أخفقتم في تدبير أمر المجتمع، وحولتم الحضارة إلى مسلخ وكنتم عمياناً وشرهين."
يكتب أناتول فرانس في تقديمه للترجمة الفرنسية:"انا لا أستطيع أن أزعم لكم إن الفاشية الرأسمالية سوف تهلك في الحال ومن غير كفاح. انها سوف تكافح. ومن يدري.فقد تكون حربها الاخيرة طويلة، متفاوتة المصائر، ايه ياورثة البروليتاريين! ايه يا أجيال المستقبل. أبناء الأيام التي ستهل! انكم سوف تناضلون، وحين تشرع الخيبات في حملكم على الشك بنجاح قضيتكم فلا ريب انكم سوف تستعيدون شجاعتكم وترددون مع بطل رواية جاك لندن النبيل:"لقد خسرنا مؤقتاً. ولكن ليس الى الأبد، لقد تعلمنا أشياء كثيرة. وغداأ تنهض القضية من جديد، وهي أقوى بالحكمة وروح الانضباط"
عاش جاك لندن اشتراكياً منذ صباه، يدقق في صفحات الماركسية ويدرس كتابات ماركس وآدم سميث وكانط ونيتشه وسبنسر، ويكرس نشاطه السياسي المكلف وإرثه الأدبي الضخم ليؤكد أطروحته الأساسية بفكرتها الصريحة: على الإنسان أن يتجه نحو الاشتراكية أو عليه أن يقبل حقيقة أنه مجرد حيوان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram