صدر عن دار المتوسط كتاب جديد للشاعر فوزي كريم وهو بعنوان مثير ، لا لأغراض تسويقية / تجارية ، بل لأن الشاعر أراد أن يعطي العنوان عتبة كبرى تمتلك التأثير القوي على القارئ وتنجح في جذبه الى القلب الذي بمستطاعه أن يفكر. والعتبة الكبرى/ الاولى في الكتابة ممتلكة للاغواء بسبب حضور الشعرية القوية التي منحها فوزي كريم لكتابه المتكون من خمسة أبواب ، تضمنت عناوين جانبية، تمثل عتبات أخرى، أو هي العتبة الثالثة بعد القلب المفكر ، والثانية: القصيدة تغني ولكنها تفكر أيضاً .
لا نستطيع عزل القلب عن الشعرية وفضاء العقل ، المزدوجة حاضرة ومتداخلة ولكن أهم ما أثاره هذا العنوان هو ثنائية الشعر والفلسفة ، ربما هي المرة الاولى التي جعلها فوزي كريم عتبة أولى في كتابه ، لكنه قال بالثنائية في حوار له أو في مقال سابق . وأنا واثق من ذلك ، لأن الشاعر فوزي كريم أحد الشعراء الكبار وبثقافة غزيرة وعميقة ، وما يدل على ذلك ما تمظهرت العتبة الثالثة ، الفنية ، بالعنْونات المعبرة عن اجتهادات فوزي وعمق إلتقاطاته أثناء القراءة ، لأن ما يكتبه من مقالات هي انشاءات ذكية على القراءة المستمرة التي لا تكتفي بما يلتقطه ، وإنما يذهب باحثاً عن مكملات لصوغ مقال أو دراسة وأنا أعرف ذلك وهذا ما تبدى لي وأنا أقرأ بدقة الحوارات الصادرة معه ، ومن حق المثقف أن يلتفت للأمام ويلتقط مجوهرات هو بحاجة اليها ، ليرمم بناءه ويقدمه بطريقة عالية الدقة وشعرية اللغة ووضوح الفكرة التي دائماً ما يجعلها فوزي كريم واحدة ، لكن واحديتها غير منغلقة ، بل منفتحة ، إذا وجدت ضرورة ملحة لحيازة ما هو جديد لخلق فكرة تتجاور مع الاولى وتغنيها وتغتني هي بها أيضاً ، وبودي التنبيه الى أن فوزي كريم ذكي جداً في إلتقاط شذراته وترصيفها جوار الأول ، ويؤسس ثنائية جوارية ، ترسخ نوعاً من الحرية الضرورية جداً والتي هي بذات الوقت رضى بالعقل الذي يقود المختلف أو المشترك بين الثنائية ، ولكنه _ العقل يغذي الحوار ويفتح الكلام بعضه مع البعض الآخر . وفوزي عارف _ ومن يتابعه يتوصل لذلك _ بأن الكلام نوع من الحضور القوي بالنسبة للشاعر ، لأنه / الكلام / يتكلم . وهذا ما قاله هايدجر عن الشاعر تراكل . من هذه الشذرة الكامنة في كتاب فوزي وما يقوله انبثقت عتبة العنوان الكبرى .
فالقلب المفكر ارتضى المجاورة مع العقل ، المتجه له وكلاهما القلب والعقل يكملان أحدهما الآخر ، وينفتحان جيداً على التداخل وارتضاء التشكل الأعمق ، وأعني به الشعر والفلسفة والشاعر فوزي كريم يدرك ذلك ويعي التفاصيل بشكل جيد جيداً ، لأنه لا يقطع الصلة بين ما يراه العقل ويقرأه القلب فالصورة هي من أولويات اليومي أو المتخيل والخيال ، وهذا حضور قوي للصورة التي قال عنها فوزي بالفكرة المرئية لأنها ليست تجريداً ، بل تنطوي على تفاصيل مشهدية وفيها تلميحات العاطفة ، ويبدو أنها " صدرت عن عاطفة ، ثم تجسدت في صورة ، وتعالت عبر نظام موسيقي بالغ الرهافة في فكرة المصادر الأربعة : العقل ، المخيلة ، العاطفة والموسيقى ، لا تنفرد كل منها بانها في لحظة نادرة كهذه اللحظة ، اللحظة الشعرية ، بل تأخذ كل واحدة صيغة الأخرى ، تتواشح معها ، تنضفر ، ثم تتوحد في الحياة العملية حين يصرخ أحدنا مستشيطاً ، يرتفع ضغط الدم لديه ، وتضطرب أسلاك العصب فيرتجف وتبتل العين والأنف وتنهمر المخيلة بدفنه صور خاطفة ، يحصل كل هذا وأكثر عن غير إرادة .
لقد اكتشف كانط إن الطبيعة لا تمنح العقل البشري قوانينه الخاصة ، لكنه العكس هو الصحيح ، فالعقل هو الذي يعطي الطبيعة قوانينه الخاصة . ونذكر عبارة كانط الشهيرة : العقل مشروع الطبيعة . وهكذا يتضح إن قوانين الطبيعة تعتمد على تصورات العقل البشري .. وقال إن العقل مفتاح لما نجربه ونختبره وما نعرفه وما لا نعرفه ، وأن أي شيء نختبره أو نعرفه يرجع الى العقل نفسه . وقد إلتزم هيغل وماركس وشوبنهور وسارتر وفوكو بوجهة نظر كانط هذه المعنية بطريقة تفسير وفهم عقولنا للأشياء / علي حسين / دعونا نتفلسف .
لو تبدّت كل هذه الأعراض في صورة لبدأ الكائن في عين من يراه تكويناً غامضاً ، غرائبياً ، لا علاقة له بالواقع من قريب أو بعيد . ولذا تبدو القصيدة في وعي قارئها غامضة وغرائبية ، لأن اللغة فيها خرجت في لحظة عن طورها ، وعن منطقها المعهود . وأصبحت لغة أخرى ، غير لغة القاموس غير لغة البشر / فوزي كريم / القلب المفكر / دار المتوسط / 2017/ص13//
اعتذر عن النص الطويل الذي وظفته من كتاب الشاعر فوزي كريم ، لأسباب عديدة أهمها الكشوف التي أشار لها عن الثنائية بين العقل والقلب ، الصورة المرئية أو المتخيلة ، ازدواج الشعر والفلسفة . والثنائية الأخيرة ، أكثر خطورة لأن آلان باديو وهايدجر تحدثا عنها كثيراً واختبرهما عديد من الفلاسفة الشعراء شوبنهور / نيتشة / هايدجر / ماركس / ومن يعاود متابعة هذا الكتاب سيجده في الشعر والفلسفة والتجربة وهي تعيش زمنها الخاطف / الترقي والذي اسماه فوزي كريم بوقت مبكر باللحظة الشعرية ، هي زمن الشعر الغامض ، المضيء ، المعتم في مواجهة الشاعر له ، وعليه أن يمسك بجمرة اللحظة الشعرية وكل الخفاء الكامن منها . كما أن الشاعر فوزي كريم تكلم وقال كلاماً كاشفاً ، وهو كلام يتكلم كما قال هايدجر وفضح اضطرابه وقلقه ، مخاوفه وحيرته ومصيره القلق ، المرتبك وهو يواجه الغير الغائب والملتقطة تفاصيله بالشعر من أجل ان تنتصر الذات التي خربتها رعدات اللحظة الشعرية والتي دمرت ولم تترك غير الشاعر مرتبكاً وخائفاً . المقطع الطويل المستعار عن الصفحات الأولى من كتاب فوزي كريم " القلب المفكر ، القصيدة تغني ولكنها تفكر أيضاً " ومن الأسباب الاخرى المرغمة لي على الاستعارة الطويلة هو بوح الشاعر واعترافه بالتجربة الشعرية الذاتية وهوسها وما قاله اعتراف حقيقي وصادق ، قاد الشاعر نحو طريق الإعلان والكشوف وأضاء لنا صورته المرئية وغير المرئية ، هو وحده يراه عبر تفاصيلها ، أو من خلال ما تمركز بذاكرته وذهنه منذ سنوات ، وغير مرئية من قبل الآخر ، على الرغم من أن الشعر واقتراب لحظته الشعرية لا يخاف الآخر ولا يتعصب منه ، إلا أن الشاعر اعترف طواعية وكأنه يقدم توصيفاً شعرياً بالغ الدقة والرهافة وقد تمكن من رسم الإطار العام وحدوده الدالة عليه وهو يرسم بورتريته الشعري . وأنا واثق هذه تجربة خاصة جداً ، فريدة كلياً ، فياضة ببلاغة الكشف عن العلاقة مع الشعر في لحظته الرعدية . كما أثق وهذا ما تسرب لي عبر ما قرأته لفوزي بأنه ينثر علينا ثقافته وفلسفته وعلاقته مع الشعر عندما يكتب شعراً ونثراً . إنه شاعر من طراز الكبار المثقفين جداً وأنا لم أقل ما جعلته ضمن مخطط مقالتي . لكني سأعاود الكتابة مرة أخرى عن علاقة فوزي الشعرية والفلسفية وماذا تعني القصيدة التي تغني ولكنها تفكر أيضاً