TOP

جريدة المدى > عام > أخلاقيات الكتابة

أخلاقيات الكتابة

نشر في: 28 يناير, 2018: 12:01 ص

يبدو لي إن أي سؤال: لماذا الأدب؟ لم يعد سؤالاً مقبولاً. أو إنه سؤال لقاعات الدرس الاكاديمي يجدون فيه مدخلاً لدراسة بنية الأدب ومدى فعله او إسهامه في الظاهرة الاجتماعية. ولهذا فالسؤال: لماذ الدراما أو القصائد أو الروايات تنتج ثم يتبناها النقد، قد لايحظى اليوم بجدية اجابة قدر ما يحقق تأكيداً لحضور هذه النتاجات الأدبية.
لكن تأكيد الحضور هو أيضاً يستدرجنا لسؤال آخر: ماهي المضامين التي تحملها هذه النتاجات لعالمنا؟ استمرار وجودها يعني استمرار" عطائها". وبلغة الاقتصاد، لماذا تباع، لماذا ندفع عنها أثماناً؟ لماذا هي عمل تجاري واسع في العالم ولها مؤسسات ولها خبراء ماليين وخبراء فكر؟ دور النشر الكبيرة، مؤسسات لها برامجها ومهامها " التثقيفية" وهي تهتم بالسياسة والحكم ولها سياسات فكرية ومتبنّيات. ولكن في الشارع، لماذا تجد ناساً يبحثون عنها كأي سلعة ضرورية؟
هذه اسئلة يطرحها عادة طلاب المدارس والأساتذة والمريدون ويتابعها المفكرون باهتمام خاص وكانهم يستدلون بها على واقع يعنيهم. وعادة نجد إجابات شتى وأسباباً مختلفة يتبادلها المجتهدون. يظل التساؤل عموماً في حالين البسيط وهو مدرسي، يسبّب الدراسة والاهتمام وفلسفي يراه واحداً من أساليب بحث الإنسان عن الضوء أو المعنى. ولأن المعنى غامض قليلاً ودائماً مايبدو قريباً ويبتعد، فنحن نتابع الأساليب والتقنيات وتنوع محتويات الكتابة، مشوِّقات وصول في حقول اهتمام. وفي هذه اجتهادات والاجتهادات هذه في الكتابة وأساليبها وفي النقد الذي لا يكتفي بالاهتمام بها ولكن بآلياته هو وأساليب كشفه.
اختلاف شاعر عن شاعر، كاتب عن كاتب وناقد عن ناقد، مثلما وراء ذلك تنتوع ثقافات وتنوع مهارات، وراءه في الاساس تنوع اهتمامات وهو مايحدد مستوى الكتابة الفكري والحضاري. وإن لم يكن منتظماً في برنامج مدرسي او تثقيفي، فهو وعي حضاري وطريقة تفكير في تكوينات النص وعلاقتها وابعادها، وفي هذه والعالم الثقافي حولها.
وهنا – ليس عارضاً أن يأتي دور أو تدخل الرقيب والمصادرة، كما تتم مواجهة أي فعل مادي مباشر: هل لأن كشفاً غيرمرغوب فيه وخشية زعزعة توازنات وارباكها توقظان الإنسان عما غفل أو خفي عنه؟ هذا بعض من رأي الاخلاقيين، والذي تفيد منه السلطات الاجتماعية المتحكمة اخلاقياً بمدى الحرية. لكن ما يكشف ماهو مثير ويدعو للتفاؤل هو أن الكتابة أصلاً ليست للخارج أو العام في صلبها الأكثر صدقاً وإننا لابد من أن نجد صيغة تقر بالأثنين، وهذا هو واقع الأدب أو واقع الفعل الاجتماعي للأدب وفي جانب منه ذلك الذي أشرنا اليه، وهو البحث عن معنى.
حقيقة الأمر، اننا بحاجة الى ما يكمل قناعتنا.اقتناعنا غير كاف بما ورد، بما في ذلك مايسمى بـ قضية الالتزام والانسان والجدوى الاجتماعية للوعي، وحتى في هامش القضية الوجودي تفرعاً من قضايا الانسان والنزوعات الفردية والقلق الذاتي أو الحلم ، وما نوجزه بتعبير دراما الإنسان في الازمنة.
فهل بعد كل ما قرأنا عن وظيفة الأدب وعن الادب الذاتي والادب للجماهير، مايعطينا سبباً لأهتمام أرواحنا، لشغف الإنسان الابدي بروح الفن، وإن في هذا حسب جوهر الادب؟عثرت على ثلاثة أراء، جاءت عرضاً في كلام قائليها. الأول من باوند حيث يقول " الأدب العظيم، ببساطة، هو اللغة تكتنف المعنى الى أقصى درجة ممكنة وإن اللغة توزع المعاني بفواصل. وتلك ضرورة اجتماعية. للأدب مهمة في الدولة!
اما د. هـ. لورنس، فله رأي آخر: ((عمل الفنان هو أن يكتشف العلاقة بين الإنسان والكون المحيط به...))
فاذا أردنا محاججة توزيع اللغة للمعاني بقواطع لضرورة اجتماعية، نفهم إننا بازاء أمرين الاول عمل فكري، وهو أن نتصل تدريجياً بالمعنى أونلاحظه وهو يتكامل وأن في هذا مهمة اجتماعية، لأن ذلك يعني التقدم والتطور وإنه نتيجة ذلك خدمة مجتمع وصنع دولة.
وهذا يعني إن الادب يسهم مع النظام الاجتماعي في كشف معنى الحياة والتمسك به او تمجيده. وبعبارة أخرى، معرفة الجدوى الانسانية من العيش والوعي فهو اذاً يمكَّن المجتمع من أن يرى ويقيم، وهذه مهمة اجتماعية.
حسناً في هذا القول تحديد واضح لمهمة الأدب وانه وضع الأدب ضمن عملية الاداء الاجتماعي المتنوع. قد لا نرتاح للتحديد، نحن المولعين بالتمرد والتجاوز، لكنه رأي واضح وقد أبعد التهويمات والكلمات غير محددة الدلالة. لسنا ضد هذا الرأي وإن لم نكتف به.
رأي د. هـ. لورنس السابق، توضحه هذه السطور" الفلسفة ، الدين، والعلم، جميعاً منشغلة في تثبيت إله واحد يقول لنا، أنتَ سوف أو سوف لن، ويهددنا كل وقت بأنه سيهزمنا. الفلسفة بأفكارها المحددة والعلم بقوانينه. وهذه الثلاث، طيلة الأزمنة ، تريد صلبنا (تسميرنا) على هذه الشجرة أو تلك، لكن الرواية، لا. الرواية تقدم مثلاً أعلى لكشف الصلات الخفية بين الانسان والعالم ومكانه وظرفه وهو غير صحيح خارج زمانه ومكانه وظرفه. فأن أردت تثبيت( صلب) أي شيء في الرواية مكانه أبداً، فهو أما أن يقتل الرواية أو أن الرواية تنهض به وتهيم.."
ماينفعنا في هذا النص، إنه كشف لنا مهمة أخرى من مهام الأدب ، وحده هو ينهض بها. إنها، والحديث عن الرواية، تكشف لنا إن الادب وحده يمتلك البيئة التي تكون العلاقات بين الشيء وعالمه حية فيها. زمناَ وظرفاً وخارج هذا تفقد الأشياء هذه المصداقية المحددة وتضيع. اعتقد بانه رأي متقدم ومهم، لأنه يمنح الأدب قدرة خلق " حياة " خاصة بين الأشياء فهو يعني بالحياة داخل الإنسان ضمن النص وظرفه. وهنا نكون امتلكنا مالم يمتلكه العلم ولم تمتلكه الفلسفة، لكن هذا الرأي الذي أراه ناضجاً وله قدرة اقناع يستوقفنا عنه رأي لـ فرجينيا ووف في الى المنارTo the Lighth house : تقول، وكأنها تستكمل الرأي السابق بتساؤل : (( كيف اذا تعمل ( الرواية) كل هذا؟ كيف يحكم المرء على الناس وكيف يفكر فيهم وما شعر به أو كرهه؟ وما المعنى الذي تقرره من بعد تلك الكلمات؟ وهل ابتعدنا عن قول ياوند الذي استشهدنا به اول الكلام. بان اللغة تقدم لنا المعاني متوالية وان لذلك ضرورة اجتماعية وبتعبيره، ان للأدب مهمة دولة؟ اليس في اختيار المعاني ونماذج الشخوص وافعالهم مما يهم الحياة وما يهم اي دولة؟ وقد تستنكر هذه المطالب من الادب بعد خفوت دعوات الالتزام ولكنه الادب عملياً يؤدي هذه المهام، والاداء الافضل مطلوب! هذه المحاكمات الاخلاقية ادركها عديد من الدراسين واكدوا عليها لا انحيازاً ولكنهم احسوا بضرورة احترام سلام الحياة والابتعاد عن نشر التوحشية وبربرية السلوك، لا الزاماً قانونياً او وصايا ولكن برغبة ان يمس الشخوص والأشياء والأحداث حولهم جوهرُ الأدب والاحساس الجمالي، فلا يباس بعدُ وتضاء الكتابة بما يبهجنا أن نراه...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

البنك الدولي: 53 مليار دولار تكلفة إعمار غزة خلال 10 سنوات

ارتفاع أسعار صرف الدولار في الأسواق المحلية

منتخب الشباب يتأهل إلى ربع نهائي كأس آسيا

إيران: أي استهداف للمنشآت النووية يعني اشتعال المنطقة بأكملها

3 مباريات جديدة في دوري نجوم العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram