كيف يمكننا أن نننظر الى الرسم بشكل مناسب؟ ولماذا تكون بعض الأعمال الفنية محط إعجابنا؟ أعمال تسحبنا نحوها بقوة ونتفاعل معها، بل نشعر وكأننا نقيم بداخلها بعض الوقت مثلما نقيم حواراً جمالياً معها. وهذا هو الحال مع لوحات الفنان محمود شبر التي تنتمي الى الرسم الذي يأخذنا معه الى أبعد من التقنية والافكار والمعالجات، لوحات تقودنا الى روح الرسم وقوة حضوره وارتفاع معناه. فبرغم سطوة وهيمنة الموضوعات التي يتناولها هذا الرسام، فهو لا يتكئ على ذلك كثيراً ولا يطمئن لقوة الموضوع مهما علا شأنه، هو العارف أن الموضوعات الكبيرة بدون معالجات مهمة واستثنائية تكون مثل وثيقة خالية من الجمال، لينبهنا في كل مرة الى قوة الرسم والمعالجات الفذة التي يتنقل بها من قماشة الى أخرى ومن معرض لآخر. يمسك عدة الرسم بيد، بينما يحمل باليد الأخرى حساسيته وموهبته، لتتحرك فرشهِ مثل مزامير تغمرنا بأنغامها ونستعيد معها معنى الرسم، وتتداخل ألوانه لتجعل لوحاته حقول مزهرة بجمال أخّاذ.
ولا يمكنني في هذه الفسحة الصغيرة أن أتحدث عن أعماله الكثيرة والمختلفة، لكني سأختار بعض النماذج من الجمال الذي يصنعه، ومنها لوحته التي رسم فيها مدينة القدس، والتي تحمل ثنائيات مدهشة، حيث التجريد والتشخيص على نفس القماشة، التاريخ والحاضر في مكان واحد، الموضوع والتقنية في انسجام يشبه السمفونية، وكذلك بالتأكيد الابداع والحساسية مجتمعة هنا، ليعطينا هذا العمل الجميل والمؤثر، حيث نتحسس حضور المدينة بقبتها المقدسة وهي تحنو لتحتضن بصمت، خشونة الواقع الممتد أسفل اللوحة. هنا نرى كيف تكون حرية الرسم مدروسة والأداء متوازن. ورغم الاختزال الشديد والاقتصاد في التفاصيل، فالرسام قد قال الكثير في عمل مزج فيه حكاية مدينة مع تقنيات الرسم ليصوغ لنا بعجائنه الملونة قلادة ثمينة ونادرة. وكذلك لوحته الأخرى حول برج بابل التاريخي، فرغم عظمة البرج، فها هو محمود يضيف اليه عَظَمَة أخرى من خلال عمل رائع ومؤثر وبتقنية متمكنة ومريحة للعين. فجمال هذه اللوحة يكمن في ربط التشخيص والتجريد بخيط واحد، حتى يكاد أحدهما يستقر في ظل الآخر، فمن ناحية نرى ظهور البرج بشكل واضح وملموس، ومن ناحية اخرى نشعر بأننا نقف أمام عمل تجريدي مكتمل، ونَتَجَ هذا الأنطباع لأن محموداً قد دفع بكل التفاصيل خارج السطح التصويري، ولم يبق بين يديه سوى روح البرج التي وضعها على قماشة الرسم بحساسية قل نظيرها وعالج السطح بطريقة مؤثرة للعين. هذا العمل خطوة إضافية في طريق الرسم الطويل. ورغم أن شبر قد ربح هنا رهان الرسم، لكني أعتقد ان الذي ربح فعلاً هو قماشة الرسم نفسها، لأن الرسام قد أعطاها قيمة.
أتخيلُ محموداً وهو يحدد الكتل ويصنع المساحات ويختار التونات المناسبة لعمله، ثم يمسك بشخصياته فجأة ويقذفها وسط القماشة ليلعب كل واحدٍ دوره ويستقر في مكانه المناسب، ورغم ان شبر يشبه مخرجاً سينمائياً يهيء المشهد في ذهنه، لكن مع ذلك تحدث تغييرات جذرية تتطلبها نوعية الرسم الذي يمارسه، حيث لا قوانين نهائية ولا ثوابت محددة ولا خارطة طريق. انه يفتح نافذته الخاصة التي نطل من خلالها على شخصيات تبدو عديمة الملامح وغريبة الاطوار، فيشير من خلال ذلك الى مايحيطنا من ضغوطات وإلتباسات بطريقة فنية باهرة، فهو لا يرسم دخان الحروب بل يرسم نتائجها، ورغم ان شخصياته لا تسعى للظهور بمظهر جيد، حيث يمعن في تشويهها وتمويهها وتغطيتها ببعض الاستعارات والرموز والاقنعة، لكن لو تأملنا ذلك جيداً لتبين لنا أن شبر لا يشوه ملامح الشخصيات التي يرسمها، بل يشوه الحروب التي أدَّت الى كل هذا الخراب، ومحت تاريخ المدن والاماكن، كما دمرت الانسان.
أرى رغم أن الحرب تبدو قد (قتلت) الناس في لوحاته، لكن لوحاته نفسها قد (أَحيَتْ) الرسم وجعلته يسير بثبات نحو ضوء المستقبل.
محمود شبر.. حين يكون للرسم قيمة
[post-views]
نشر في: 26 يناير, 2018: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...