ما كنا نعرف القبح كما يجب، قبل العام 2003، كنا لا نشعر بالأمن ونعاني من الدكتاتورية، أي نعم، وكانت فجائعنا في حرب الثمانينيات عميقة وكارثية، تشهد على ذلك الجبهة العريضة الممتدة على الحدود، وكانت سنوات الحصار قد أذلتنا ما فيه الكفاية، فرغيف الخبز كان صورة الحياة وطعم السعادة، وبين تلك وهذه مصائب ومظالم لا تعد. هو القبح، نعم، وهو الخوف والمهانة والموت، أي نعم. لكن القبح الذي استشرى في حياتنا منذ عقد ونصف كان مما لا يصدق، ولايحقُّ للآلهة العادلة أن تكافأ به شعباً مظلوماً، صابراً، محتسباً كالشعب العراقي.
لا أريد أن أمنح الفترة تلك قيمة ما، فالحياة العراقية منذ عقود طويلة، وربما عبر التاريخ، لم تكن مثالية أو ضمن سياقات الحياة الانسانية، إذ أن متوالية الدكتاتوريات والانظمة العسكرية والاحزاب الشمولية لم تترك للفرد العراقي فرصة إلتقاط أنفاسه، لكن، وبحدود ما، فقد كانت هنالك فسح وفجوات تمكن خلالها من التنعم بما تجود عليه السلطات من غفلة وتسامح وغض النظر، وهذا ما تلمسناه عند أجيال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات، من الذين لم يدخلوا معترك السياسة بخاصة، أو ممن وجدوا في (السير بجانب الحائط) سبيلاً لراحة البال، واكتفوا – في تقنين واضح- بحياة يعوزها الكثير، ثم أنهم، جزافاً، سمّوا العيش المستكين ذاك"حياة".
في فترة ما، وبسبب من سوء في سياسة الأنظمة، هنالك، من لا يريد أن يضحّي بحياته ومستقبل أسرته من أجل قضايا يظنها البعض عظيمة، وقد تضاءلت وهان عليه الحيوي والجوهري منها، ولو أحصينا عدد المعارضين والناقمين علناً على سياسة حكومة صدام حسين مثلاً قبل انتفاضة 1991 لوجدناهم لا يشكلون نسبة كبيرة، وهذا لا يعني قبول الغالبية والنسبة الكبيرة بما كانت عليه الاوضاع، أبداً، لكن قبضة السلطة كانت من البطش والقهر بما لا يسمح لهؤلاء بالخروج والاعلان عن الرفض والتصدي.
في حمّى الحرب ومع اشتداد ملاحقة رجال الأمن والاستخبارات للهاربين من الجيش، كنا نجلس في مقهى أبي نجاح، بالعشار، نحن (شعراء وفنانين وطلاب جامعة ومتقاعدين) ممن لم يحن بعد موعد سوقهم للجيش، نتمتع بما ظل في حوزتنا من السنوات، نذهب للنوادي الليلية نشرب الخمرة ونسهر ونرقص، ثم نكرر ذلك، مستمتعين بمشهد نزول فنانات ملهى الفارابي والنصر وشهرزاد وألف ليلة وليلة من الفندق، حيث دكة المقهى مكاناً لانتظار الباص، الذي سيقلهنَّ الى شارع الوطني. كانت المسارح ودور السينما ملاذاً لنا ولأسرنا، والحدائق العامة محطات استراحة بريئة للجميع،لا مخاوف من قتل في شارع، ولا بغضاء نحملها ضد أحد من أبناء مدينتنا، كان شيخ العشيرة ذليلاً ورجل الدين مقدساً، قابعا في مسجده لا نشم رائحة للطائفية في جلبابه. كان الظلام في النفوس قليلاً والكراهية بذرة يزدريها الخاصة و العامة.
سيارات كثيرة تنقل العصائر والمرطبات والأجبان واللحوم والفاكهة والخضار اليوم، لكنَّ سيارة الشركة العامة لتوزيع الحليب والألبان، التي كانت تقف أمام الدكاكين آنذاك، ستظل هي الأجمل والاكثر عطاء، حتى سيارة الانضباطية، الكاز 66، ذات الخط الاحمر، التي كانت تقف في تقاطع شارع الكويت، ونتوقع صعودنا فيها كلما مررنا بها، ستظل أكثر أمناً وأماناً من مئات"الجسكارات"المظللة التي مازلت تخطف مسرعة اليوم ونجهل عائديتها ووجهتها، كان ابن المحافظ حقيراً ويختار من النساء من يستطيع إليهن سبيلاً، لكنه لم يكن قاتلاً ولا مهرب حشيش.
تعالوا الى كلمة سواء
[post-views]
نشر في: 23 يناير, 2018: 09:01 م
جميع التعليقات 1
أم رشا
أستاذنا العزيز كل ما ذكرته في مقالك صحيح ولكني اختلف معك في نقطة واحدة وهي أن قبول الغالبية بوضع السلطة حينذاك هو ليس خوفا من بطش السلطة بقدر ما هو من سيستلم السلطة بعد صدام ونحن نعلم من هم المناوئين والمتربصين وهم معروفين لدينا الاخونجية وشيعة إيران والح