كتاب جديد للأستاذ علي حسين صدر عن دار أثر ، ويمثل أمتداداً لكتابه المهم " في صحبة الكتب " كلاهما يتمركزان حول القراءة وما تفضي إليه من معلومات ضرورية عن أدباء بارزين مع كشوف لتجاربهم الذاتية .
يمتاز الأستاذ علي حسين بالنشاط والحيوية ، ففي اللحظة التي ينتهي فيها من انجاز كتاب ، يباشر العمل بالآخر ، لأنه وبين العملين يكون قد اختار الموضوع الذي يشغل فيه وعليه ويضع خطة العمل وبدأ الان بكتابه الرابع" غواية القراءة " ويدرك بشكل ممتاز بأن القراءة والعلاقة مع الكتب هي حياة الكائن ومنها يتعلم ما لا يدركه من دروس إعتماداً على مصادر أخرى . ويبدو للمتابع لما ينشره علي حسين عنايته بما يساعد على تحفيز الفرد وتشجيعه على القراءة ودفعه لاختيار مصادر ثقافية ، بمعنى أدق ، ذهب علي حسين نحو مشروع ثقافي ومعرفي لم يسبقه إليه أحد من المثقفين . واعتقد بأن نتائج هذا المشروع مهمة ، لكنها مستقبلية . واهم تمظهراتها ، هو عقد صداقة مع الفلسفة الغائبة تماماً عن الحياة الثقافية . ولهذا انعكاس واضح على الحياة السياسية والاجتماعية .
" دعونا نتفلسف " كتاب علي حسين الجديد ، الذي استدعى هذه المقدمة الطويلة ، وهو دال على ما ينطوي عليه من العنونة التي اختارها الكاتب والتي تومئ لحلم الكاتب بالمجاورة مع الفلسفة ، هي رغبته الدائمة وذاكرته التي يستدعيها كلما استوجب الحوار مروراً على الفلسفة . ويضع الكتاب القارئ وجهاً لوجه امام الاصول الفلسفية الاولى في حضارة الأغريق ابتداء . بهيرا قليطس . لكن الباحث لم يجزم باعتبار هيرا قليطس أول من تفلسف ، لأن الحضارات الشرقية تعرفت على هكذا ثقافة كما في الصين وأكد ومصر الفرعونية ولابد من إشارة لهذه الملاحظة المستدعاة لمقولة سريعة للكاتب علي حسين للزوغان عن التمركز الاستشراقي ورأيه المعروف عن الشرق ومحاولاته القديمة لتجريد الشرق لكل ما يجعله متماثلاً مع الآخر ، وكرس في الثقافة والفكر شرقاً تم انتاجه بالصورة التي أرادها الآخر .
ابتدأت عتبة التفلسف بهيرا قليطس الذي لم يكن قليل الحضور في تاريخ العالم هو ولد عام 540 ــ 480 ق . م قال عنه ارسطو اول مؤسس لضروب الفلسفة ، لكنه لم يترك لنا سوى كتاب واحد عبارة عن حكم مكتوبة أقرب الى الشعر ، اطلق عليها اسم ( شذرات ) قال عنها سقراط : ما أروع الجزء الذي أفهمه وما أروع الجزء الذي لم أفهمه ايضا ، وهو يحتاج الى غواص ماهر كي ينفذ الى أعماق معانيه ، فيها روح ذكية . يقول عن دورة الحياة والموت : إن الزمن طفل يلعب النرد ، والقوة الملكية انما يتحكم فيها الطفل . ويقول عن التغيير الذي لا يلاحظه الناس : انك لا تستطيع أبداً ان تنزل في النهر نفسه مرتين ، لأن مياهه جديدة تتدفق عليك بلا إنقطاع ، ويقول أيضاً : اننا ننزل في النهر نفسه ولا ننزل فيه اننا نكون ولا نكون . ص9//
مقولة ارسطو عن شعرية شذرات هيرا قليطس مهمة وتعني شيئاً مهماً وملمحاً كان وما زال وسيظل ، لأننا لا نستطيع تجريد التفلسف في اصوله الاولى والفلسفات بمراحلها المتقدمة من الشعر الذي تجاور مع الفلسفة وتميزت به ولعل أبرز ما يمكن الاشارة له لتأكيد هذه المقولة ، هكذا تكلم زرادشت لنيتشه ، بالاضافة الى ديوانه الشعري وأيضا هايدجر الذي صرح مرات وأكد على مجاورة الشعر للفلسفة ، وتميزت تفلسفات ميشيل فوكو ، جاك دريدا ، دولوز مع شوبنهور..........الخ
والعودة للكتاب الوحيد لهيرا قليطس سنجده شعراً وستظل شذراته ذات حضور وتنوع في المعنى .
من الملاحظات الجوهرية حول تفلسف هيراقليطس هي حضوره وسط الجماعات والافراد ، لان مثل هذا الحضور يعطي الفلسفة نوعاً من الجدل والصراع ويمنح الحوار حرية بالحركة ، إنه يؤمن بأن المواجهة عملية تثقيف وتوسيع مساحة الفلسفة القادرة على استقطاب الكثير من الجماعات . وقال بأنه سعيد بالفرد الواحد الذي يستجيب لما أقول . لذا اعتمد على الساحات ولم يؤسس مدرسة خاصة به ، كان يكره أن يكون له اتباع ، ويقال ان وضع النسخة الوحيدة من كتابه الشذرات في احد المعابد لتكون بمنأي عن ايدي العامة من الناس كان شعاره " انا خرجت للبحث عن نفسي " وهو الامر الذي لم يقله الذين سبقوه ، حيث كان الجميع منشغلين في العالم الخارجي ، ولم يجدوا متسعاً من الوقت للنظر في داخل نفوسهم ، اما هيرا قليطس فقد رأى ان البحث عن سر الكون لا يكون الا عن طريق البحث عن سر الانسان نفسه ، وهذا ما دعا فرويد لان يقول ان هيرا قليطس هو اول عالم نفسي بحث في النفس البشرية . لذا قال : ان شخصية المرء هي قدره ص11//
ومن الافكار البدئية التي قالها هيراقليطس هو عدم ثبات الاشياء لانها محكومة بالتغيرّ ، ليس مرة واحدة ، بل باستمرار . وأكد على التباينات والتناقضات الموجودة في الحياة والعالم . ومثل هذا الوجود مهم للغاية وجوهري ، لان الاختلاف والتباين يوفر فرصة ذهبية لنشوء الصراع بين الاضداد وهو يمنح للعالم وجوده الخاص . تجعل ومثل هذه الاراء والشذرات الفلسفية منحه قريباً من الانسان ومفحومهاً وليس معقداً ، لسبب بسيط ، يتعرف عليه القارئ سريعاً وهو حضور العقل فيما يقوله هيرا قليطس ، لانه الاكثر اشتراكا بين الناس . واشار في ذات المجال الى اهمية ان يتعرف الفيلسوف على العقل ، كي يذهب به الى كثير من الاشياء " الا ان الاهم هو ان يبدأ بعد ذلك باعمال عقله في كل المعارف . يقول في شذرة له " الذين يتكلمون عن العقل يجب ان يتمسكوا بما هو مشترك للجميع ، كما تتمسك المدينة بالقانون ، بل اشد لأن جميع القوانين البشرية مستمدة من قانون واحد الهي يحكم كل شيء ، كما يشاء ، ويكفي لكل شيء ، وهو مع هذا فوق كل شيء ........ ص12//
اهتم ابرز الفلاسفة في تاريخ الفكر والمعرفة بما انطوت عليه شذراته وانشغل بها كل من نيتشة وهايدجر ودولوز ولم يتوقف الاهتمام : قال عنه هيغل : هو الفيلسوف الذي تتلاقى فيه الاضداد ويتعانق فيه الفكر والوجود وقد حاول ان يتبع خطاه واحبه نيتشة بجنون حتى كاد ان يكون هيراقليطس جديد يعيش في العصر الحديث . وأكد على ان الفلسفة تعود باصولها ومنابعها اليه ، هو صاحب صوت متفرد وسحرت شذراته هايدجر الذي تعامل معها بوصفها التربة الاصلية التي برزت فيها البشائر الاولى للفلسفة التي قال عنها هيراقليطس : انها الطريق الصاعد الى الحكمة . اما دلوز فقال : هو مفكر التراجيديا . لكنه رأى الحياة بريئة وعادلة بصورة جذرية ، انه يفهم الوجود انطلاقاً من غريزة لعب ، ويجعل من الوجود ظاهرة جمالية لا ظاهرة اخلاقية او دينية /ص13//
سأتابع هذا الجهد الثقافي والمعرفي لاهميته وامكانات توظيفه بما يتناسب مع ما نحن بحاجة اليه في التجربة العراقية لانها بحاجة الى التنوير والعقل والكتابة عن كل الجهد الذي صاغه الباحث علي حسين لا يستوعبه مقال واحد ، لذا سأختار ما يساعدنا على الانتباه لما نحن فيه ....