قد يتمكن الأب، الموظف، المتقاعد، مثلي، من شراء البسيط من حاجياته (زجاجة عطر، شفرة حلاقة، معطرجسم، ملابس داخلية...) لكنَّ الاشياء هذه، ستكون أجمل وذات أهمية كبرى إن اهديت له من أحد أبنائه. أعلم أنَّ هدايا كهذه لا تشكل معنى في يقين البعض، لكنني اعترف بان زجاجة العطر ومعطر الجسم التي وجدتها على منضدتي مساء البارحة، مقدمة لي من ابني (علي) كانت ذات وقع أخضر وعميق في روحي.
سأذهب بعيداً، في أوهامي التي لا يدركها إلا من تجاوز الستين بخمس، ولا يتحسسها إلا من كان له أبٌ مقعدٌ، ساعدني في العودة الى الايام التي كنت فيها ممرضاً لأبي، قبل أكثر من أربعين عاماً فها أنا عند وسادته القطن، وهو ممدد على فراشه، في بيتنا الطيني القديم، حيث لم تكن رائحة فراشه طيبة، وحيث النور ضئيل، يأتي من السقف ذي الاعمدة الصندل والقصب، وأقول:" هل ساءته رائحة قميصي حين مررت به" ؟ لا، مستحيل، أبداً، فأنا ما زلت لما أبلغ المرتبة تلك، أنا قويٌّ بذراعين يرهقان النخل، يعظّمان من شان الجداول النائية والظلال، لذا، سأظل انفي عن نفسي تهمة النوم الطويل في السرير، فما زلت استبق الشمس فجر كل يوم، أعيد ترتيب الزهر على النافذة، اسقي عطاشى الفسائل وأدفع بنفسي قوياً، صُلباً تجاه أبعد قيعةٍ في الأرض، أنا مشبع حدَّ الحياة بروائح الزهر والشمس والصباحات.
لن أمنح جسدي العظمة كلها، فهذا مما لا يصدقه أحدٌ بي، لكنَّ قوتي ستتضاعف في الغد، سأذهب للمرآة واثقاً، عندي شفرة حلاقة جديدة، وسأستمتع برائحة ماء القولونيا بعدها، ومعطر الجسم بعد الحمام، أحب شعر رأسي، رمادياً، ما زال كثيفاً، ساستعمل مجفف الشعر كيما لا أصاب بالزكام، هذا يوم شتوي جميل، ساختار بذلتي النيلية، كان (جاكسون بروان) قد اوصى ابنه بشراء بذلة زرقاء، ضمن جملة الوصايا الـ 1500 التي كتبها له، ومثله سأطلب من ابني أن يلتقط لي صورة جديدة، شريطة أن تكون بكاميرا هاتفي الجديد( آيفون سكس بلاس) الذي لولا أن تضافرت نقود أبنائي لما استطعت اليه سبيلاً -يوصي (براون) أبنه بان يلتقط له صورة أو صورتين في العام. هناك شيء ما يتحرك في الروح.
منذ أعوام ليست بعيدة وأنا أحرص على الاحتفال بالأعياد، رأس السنة الميلادية، ميلاد اولادي الثمانية، ومن ثم الأحفاد والاسباط، النوروز، عيدي الفطر والاضحى، وأحرص على جعل مؤشر التلفزيون على المحطات الغنائية، وإذا ما أهداني احدهم أغنية نادرة فأنا أشيعها في البيت، انا على خلاف مع الماغوط، الذي يقول: الفرح ليست مهنتي. أبداً، فأنا مخلوق يقارع الألم بحقل فراشات، يحطُّ من شأن الضجر بابتسامة هازئة، ولا يريد لهذا العالم النكوص، فقد كان الجهد الانساني باهرا وعظيماً، كانت القوة الايجابية التي أطلقها العراقي الأول في السهول الرافيدينة، وداخل أسوار أوروك خلاقة. أنا انتمي لذبالة النور تلك. للأضلع التي اصطكت على المباهج. كان لزجاجة عطرك التي اهديتنيها يا (علي) معنى لا يدركه إلا من تجاوز الستين بخمس.
مباهجُ مَنْ تجاوزَ الستينَ بخمس
[post-views]
نشر في: 20 يناير, 2018: 09:01 م
جميع التعليقات 1
أم رشا
انا سعيدة جدا لأجلك فهذا هو بر الأبناء للوالدين الذي علمته لاولادك وكانوا بحق أهلا لذلك وهذه الهدية وبما اني تجاوزت الستين بكثير ، على بساطتها تنعش الروح وتسعد البدن وتطول العمر ، ربي يحفظك لاولادك ويحفظهم لك مع تقديري.