TOP

جريدة المدى > عام > اللغة حين الحضارة تتقدم

اللغة حين الحضارة تتقدم

نشر في: 21 يناير, 2018: 12:01 ص

ثقافتنا اليوم تواجه مفترقات. فهي أولاً ليست ثقافتنا في بعضٍ حيوي منها هذا البعض ثقافة اكتسبها التطور الاجتماعي من عصرنا الحديث. وثانياً، القسم الأوسع اجتماعياً منها لم يعد ثقافة مستقرة وخسرت التسليم بجدواها. هي اليوم ثقافة مضطربة وليست برسوخها الأول. فالثقافة التقليدية التي يتبنّاها القطاع العام في المجتمع وطبقة المثقفين الدينيين المعنيين وبالتاريخ و "الروايات"، تتزاحم فيها متضادات.
فنحن بها بين:
المنطوق والمكتوب
وثنائية العقل والنقل
والنظر والتقليد
وعلم الدراية وعلم الرواية

وعلى ما يبدو من تشابه الدلالة في النقاط الأربع، تظل، بتقارباتها الأولى، ضرورية تستوجب البحث والعناية.
واليوم يبدو نفد صبر أصحاب النظر، تقليديين أو حداثويين ، فصار العقل يواجه الدين مباشرة. لا جوهر الدين ولكن قيمه وتبنياته. واضحة اليوم الاتهامات بسوء الفهم أو نقص استيعاب النصوص وثمة رؤى جديدة وتفاسير. وأظنها مسألة لصالح الدين لا ضده. لأنها الطريقة الوحيدة لتشمله المعاصرة وهذا اتجاه مثلما هو علمي حواري الى درجة كبيرة، هو يضمن خطورة واضحة لأنه يقوّض منظومة هيمنات عقدية مغلقة، صنعتها الرواية والنقل. صارت للنص وللحدث مضامين تكسر من قدسية الرواية ثم دلالاتها كما تكشف عن فرص ارتياح للمعاني الجديدة. هي عملية علمنة وعصرنة للموروث.
ضمن التقليدي والرغبة بالجديد، ثمة ممارسة في الخطاب الشفاهي تطرح ما امتلكه من زمن، بل يفرضه وكأن ليطرد الجديد الخطأ. صحيح هي تواجه، حتى من بعض المستمعين لها، اعتراضات لكنها اتخذت من جماهير العوام قوة اصغاء وفعل. هي مرئية مسموعة ، لكنها في رأيي ظاهرة زائلة وإن بعد حين. بقي أن نعرف مسألة مهمة، قد تبدو مجهولة للكثيرين، إن وراء تلك الظاهرة الخطابية- جاهزة الامثلة و التعابير- ترسانات متخصصة، لهم اجتهاداتهم. وأولاء يمثلون اليوم المؤسسة المتخصصة بـ "القديم". هؤلاء سيستمرون لأنهم يمثلون جانباً ثقافياً ولأن العصر لن يستغني عن هكذا ثقافة دينية إيمانية تاريخية واعتماد اللغة نحواً وتفسيراً . هم اليوم أكثر إحاطة بالموضوعات المتعلقة بتلك الحقول. قد يمثلون مؤسسة اختلاف مع مدارس العصر الحديثة، لكنهم يتولون حقولاً معرفية مهمة تسندها أحياناً بعض فلسفات العصر المؤمنة باحتياج الحياة لتلك المعارف من أجل تكاملها المعرفي. أحيانا هم يحتجون بالمعارف الجديدة متكآتِ اقناع لضعفهم الفكري في تلك.
نحن إذاً بازاء حضارات متزامنة تطغى مواصفات واحدتها على الأخرى. والعمل بطاقة ثقافات مختلفة بِنسَب التنوع فيها، لا يحجب ظهور شواخص ادبية واسماء لامعة محلية. فالهجنة المتوقدة تنتج مبدعيها. ولذلك شهدنا عبقريات ادبية في افريقيا، حيث الثقافات / الحضارات الأخرى حاضرة وتتقدم. كما شهدنا أسماء في الشرق الاوسط وفي الهند وباكستان واسماء المبدعين اليابانيين معروفة في اوساط العالم الثقافية والمعرفية. حضارات اجنبية ، فرنسية ، انجليزية مع حضارات محلية مختلفة أقل شأناً...، كل هذه تعمل معاً في أوساط العالم الثقافية.
ولا غرابة بعد هذا ان تكون اللغة لا الدين هي المعْلَم الحاسم للحضارة. ربما ابسط الاسباب هو وجود اللغة قبل الدين وان الدين جاء عبر اللغة.
هذا المعْلَم الحاسم، بالنسبة للعرب، كما لبلدان افريقية عدة، تعرض الى هيمنة حضارة من لغة اخرى. نعلم إن الانجليزية اليوم، في بلادنا، مثلاً، هي لغة الطب والعلوم. كذلك هي مصدر معارفنا في الآداب والفنون مما تعدى الأثر اللغوي الى التأثير الحضاري الأوسع. هو إذاً نفوذ لغة أخرى يلغي أو يقلل من نفوذ اللغة المحلية وحضارتها.
ثم إننا بازاء حالة ازدواج اللغة الوطنية نفسها لغة القراءة والكتابة غير لغة الكلام. الاخيرة لهجة او لهجات من الاولى. ما نواجهه ان اللغة المحلية تنتقص من نفوذها اللغةُ المؤثرة القادمة حاملة الحضارة الجديدة. فإذا قل نفوذ الفصحى، كيف هو الحال بالعامية؟ هذه تكون قد ابتعدت أكثر عن المستوى الحضاري المتاح. ومن بعد تضاءلت قيمة الموضوعات التي تنشغل بها. فإذا اضفنا اتساع التعليم وتراجع الأميّة مقابل التقدم الحضاري وتزايده الى درجة حتميّة القراءة والكتابة باللغة الاجنبية للتواصل والتفاهم، وهي عندنا الانجليزية، تكون النشاطات المادية الشفاهية قد فقدت حضورها الحضاري إلا لمن هم في المستوى الاقل تحضراً ومعاصرة. وهكذا تبدو الضآلة ، و تدني ما يتعلق بها من شعر وفنون ولذلك تبدو محاولات إيقاظ او تغذية "الشعر الشعبي" و الفنون الشعبية، من باب أما الاهتمام بالماضي أو استلطاف الطرائف او للدرس .
أمامنا طريقان، واحدهما تقدم العامية لتصبح اللغة الثقافية والرسمية، وهذا يعطي فرصة افضل للشفاهيات والشعبيات لتحقق تقدماً مرحلياً مفترضاً. أما في حال تطور الفصحى مع عدم الاكتفاء بها وحدها، لأن تطور المجتمع ثقافياً ومرحلياً أكثر من تطورها، فهذا يؤدي الى عدم الاكتفاء بها والحاجة الى لغة عالمية فاعلة في العصر. وهذا يجعل كلا الشفاهة وما يقاربها من فنون شعبية معاً، أليق بالمرحلة الحضارية السابقة لأنها بحسب ما ذكرناه تخلّفت في الدرجة الثالثة.
وهنا لابد من التأكيد على أن اللغة المتداولة تهتم بنقل "الحقائق الحِرْفية" وأن لغة الادب والتاريخ تعج بالاستعارات بحكم اتساع ومدى منظورها وأبعادها. فكيف سنقرأ غداً فنوننا الادبية واللغة مرتبكة فقيرة؟ الفقر الثقافي والقصور المعرفي والادبي، ثلاثة لا تصنع مجداً . اللغة القاصرة تزيد من حضور الوعي الزائف. المسألة ليست ارستقراطية ولا حلم نخبة.
النافع هو أن نتحدث بما ينفع التطور والمستقبل لا لإرضاء الحاضر ومجاملة الزائل. وهذا يعني أن تقدم اللغة الوطنية واكتمالها حاجة أساسية للتفاهم الحضاري الجديد ومتطلبات مفرداته. لا أعني السوق والحديث اليومي الاعتيادي ولا الحرفيات. أعني ما بعدها، الرسمي والثقافي والعلمي. فأي تشجيع على انهيارات في اللغة وفي تماسكها وقوتها الافصاحيين لا يخدم المستقبل الذي هي واسطته ولا التطور الحضاري.
اضطرت شعوب لأن تترك لغاتها للشارع واليومي وتتخذ لها لغة اجنبية للشأن الادبي والعلمي والحضاري الجديد. وهذه ظاهرة مبكرة لضمور اللغة الوطنية من بعد. الحجة بالتعبير عن روح الشعب، حجة غير مقنعة لركاكة اللغة وعاميتها. التعبير عن روح الشعب أصعب من التعبير عن أي موضوع آخر. فهو يحتاج الى لغة دقيقة نافذة ومتكاملة للتعبير عن احتياجات العصر وتعقيدات الشخوص وظروفهم، لا الى لغات عاجزة ركيكة لم تكتمل وتنضج تراكيبها. هذا يدعونا لأن نعيد فهمنا لمضمون "الثقافة الشعبية" الثقافة الشعبية بمفهوم الدراسات الحديثة لا تعبر عنها الشفاهة ولغة السوق اليومية، بل اللغة الأوسع والاكثر اكتمالاً. تبسيط الامور فيه إضرار بالمستقبل. نحن نشهد التحولات السريعة والواسعة في الفكر والمدنيّة والعلوم والآداب فلا مجال للغة محدودة قاصرة، هي من نتاج التخلف الاجتماعي. ليكن المستقبل حاضراً أمامنا فيما نكتب وفيما نقترح ونرى. هو هذا طريق التقدم وهي هذي اللغة السليمة القادرة التي نريد ...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

البنك الدولي: 53 مليار دولار تكلفة إعمار غزة خلال 10 سنوات

ارتفاع أسعار صرف الدولار في الأسواق المحلية

منتخب الشباب يتأهل إلى ربع نهائي كأس آسيا

إيران: أي استهداف للمنشآت النووية يعني اشتعال المنطقة بأكملها

3 مباريات جديدة في دوري نجوم العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram