جلس قبالتي . رجل في منتصف الأربعين ، شعره أسود طويل ، وجهه منبسط الأسارير ، وعيناه
طيبتان . لسبب ما بدا قلقاً ، تكلم عن هواه الأول : الرسم " يجب أن أرسم"، قال بصوته الجميل ، ذي
اللكنة العربية المنغمة . " الرسم غرامي الأعظم . بلا فرشاة لن أكون سعيداً .. أنا أحب الرسم " . بدا
صوته ضارعاً .
بعد عشرين عاماً من إنهائه دراسته الجامعية في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد ، وما زال هواه متقداً .
في تلك السنوات تمكن ستار ( 1963) من خلق عالم شديد الفرادة .
من اطلع على أعماله أول مرة ، رأى ألوانه الصريحة ، وجوه شخوصه، المميزة بأشكالها البيضوية ، وشهوانيتها
الغامضة ، فإذا نظرتَ إليها عن قرب، سترى أغلب تفاصيل القصص التي تسردها لوحاته ، وهي ، غالباً ، قصص
بين رجل وامرأة . سنرى الحب ، الهُيام ، الاسترخاء ، القرب ، والرغبة. فنه يضعك في عالم سحري أينما
وليت وجهك فيه . فكأنه الفردوس – ذاك الدفء المنبعث من سطوح لوحاته المستوية." رسوماتي تحتوي قصصاً " وهي مما يدور حول لحظات شديدة الخصوصية بين كل عاشقين ، فأنا
بحثت ، عميقاً ، في أسرار اجتماعهما".
حتى ذلك الوقت ، تقف المرأة في صدارة المشهد ، بينما يبدو الرجل ثانوياً .
أشكال نسائه مغطاة بغلالات شهوانية. نكاد نلمس حبه لهن ، لمساً. فهو قد وضعهن على قاعدة وحاول
فك عقد أسرارهن .
فن ستار كاووش ملتبس ؛ فنانو هولندا ينظرون إليه باعتباره فناناً عراقياً ، بينما ينظر العراقيون إليه باعتباره
هولندياً . من هنا عجزنا عن وضع فنه في تيارات الفن السائدة . إن أعماله لشديدة الفرادة ، والأصالة . ولكن
هذا لا يعني عدم تأثره بآخرين .
ذكر لي أسماءً من تيارات فنية شتى، معتبراً بيكاسو ملهمه الأول " بالنسبة إلي بيكاسو أولاً " . هناك ، أيضاً ، مارك
شاغال ، جوستاف كليمت ، راسين ايكونس. أو الأقرب منهم إليه : جان تورب ، روت موللر . كلهم فريد من نوعه ، وفريد بأسلوبه. هم فنانون ، مثله ، خلقوا عالمهم الشخصي، فتمكنوا ، بالتالي ، من تمهيد السبيل لبصماتهم الخاصة .
لقد صنعوا ، أحياناً ،ما صنعوه ضد ميول عصرهم السائدة .
" ولدت متأخراً 100 عاما " أعتقد أني أفهم ذلك . لقد اتجه فن زماننا ، اليومَ ، للبحث عن هويته . للنظر إلى
الماضي ، مع الأمل في المستقبل . الفنانون نظروا إلى الأسباب العميقة لوجودنا . حيث بدا كلُّ شيء ممكناً .
الفن رفع الجمال عالياً ، في الوقت الذي بات فيه الواقع خشناً وقاسياً. الشيء نفسه حدث لستار ، حين انسحب
إلى عوالمه الفنية . فالفن ، هو ، المرفأ النهائي للفنان مهما تبدلت ،أو دالت ، مواقع سكناه . هذه الحقيقة ظل
ستار يحملها في أعماقه – ما دام قادراً على الرسم – عبر صور واستعارات شتى : " في قصائدي
فقط ، أقدر أن أحيا " هذه العبارة التي كتبها الشاعر الهولندي (ج.ج.سلورهوف ) ، تنطبق تماماً على ستار ، وفنه .
أود لفت انتباهكم إلى مقدار ما يحمله ستار من حب لفن الشعر ؛ الشعراء العرب ، وكبار شعراء فرنسا : آرثر
ريمبو ، بودلير ، بريفير . بعد الفنون البصرية ، يأتي الأدب كمصدر كبير من مصادر إلهامه . حبه للشعراء
قوبل بالمثل ، فقد كتب بعضهم نصوصاً شعرية من وحي رسوماته . هم عبروا بالكلمة ، وهو بالصور ، لكن
مصدر نصوصهم وضربات فرشاته يظل واحداً : دفء العواطف الإنسانية التي توحد البشر في حياتهم المشتركة .
سألته عن أحلامه ، فأجابني : مثل كلِّ فنان آخر : الشهرة ، الاعتراف ، بلوغ مكانة عالية في تاريخ الفن ، وامتلاك
متحفه الخاص .
سجلّه الفني أكثر من رائع : اكثر من عشرين معرضاً شخصياً ، وستين معرضاً جماعياً ، في مختلف أرجاء
العالم ، من العالم العربي إلى أميركا، ومن السويد إلى الأردن . لكن ذلك غير كاف بالنسبة إليه ؛ إنه يحلم باجتراح
شيء كبير . تمكن ستار من فرض نفسه على عالم الفن ، بدلاً من أن يدع هذا الأخير يفرض نفسه عليه .
فنه جدير ببلوغ ما يستحقه من مكانة ، بيد أن طريقته في الرسم لا تتوخى السهولة لتحقيق غايتها ، وذلك بسبب
من عدم سماحه لفنه بالانخراط في تيارات عصره الفنية السائدة .
الزمن وحده سيخبرنا متى ينال ستار المكانة التي يستحقها . في غضون ذلك ، هو سيرسم بشكل أشد رسوخاً في مشغله ، في مدينة ( hoo – gevee ). وأما عمله الفني فسينتشر بعزم وإصرار ؛ عمله - عالمه الذي يرغب بإشراككم به .
صافحته بحرارة . شكرته على فتحه أبواب عالمه لي . نظرت إليه وهو يهبط السلم ، فناناً ودوداً يقوده هوىً مهيمنٌ
واحد ، لا غير : الرسم .
* أدناه ، ترجمة ، عن الانكليزية ، لمقدمة ، كُتبت باللغة الهولندية ، بقلم ميشيل فان
مارسيفين ، مدير متحف ( DRENT MUSEUM) ، والمناسبة : صدور ألبوم جميل جداً ، وأنيق ، ضم بين دفتيه
مختارات من أعمال الفنان العراقي (ستار كاووش ) ، الأخيرة ، أي تلك التي أنجزها في مغتربه
الهولندي .