السينما الالمانية أصبحت ظاهرة المهرجانات ودور العرض الأوروبية ، فالكل يجري وراء أي منجز جديد لهذه السينما الساحرة ، سينما حقيقية ، جميلة ومهمة ، سينما عن قساوة الحياة المعاصرة وكيفية تقديمها بصورة مبهرة ، بسيطة وعميقة ، وباداء من شخصيات تشعرك بواقعيتها الحقيقية .
فيلم المخرجة ( مارين آدي) الاخير ، (توني ايردمان) واحد من الافلام التي تستحق أن نشاهده بروية ، سنضحك كثيرا بقدر مافيه من ألم ، قد يبدو الفيلم للبعض كوميدياً ، لكن مخرجته طرحت بذكاء قضية عميقة ورسالة هادفة عن كيفية تمتعنا باللحظة التي نعيشها ، كيف نمسك بالسعادة في ظل عالم بارد قبل أن يتسرب العمر كما الرمل من بين الأصابع ، أحتاجت ( مارين آدي ) في تمرير رسالتها هذه شيئاً من الكوميديا كي توصل لنا تناقض الحياة المعاصرة .
فمدرس الموسيقى المتقاعد ، الذي يعيش ببوهيمية ، ويأخذ الحياة بكثير من الضحك واللامبالاة يقرر زيارة ابنته الوحيدة ، والتي هي مناقضة لشخصيته ، جادة ، متزمتة ، فارغة عاطفياً ، وتعمل مستشارة في شركة اغلب العاملين فيها ذكورا ، تحاول فرض شخصيتها من أجل نجاحات أكبر ، بالتأكيد اللقاء بين الأب والابنة سيحمل الكثير من الجفاء ، فهما من عالمين مختلفين ومتناقضين ، هذا الاختلاف والتناقض هو الذي يولد لحظات الكوميديا في ظل حياة قاسية .
أمام جفاء الابنة يقرر الأب أن يطاردها فيستعير شعراً ويضع أسناناً بارزة ليفرض نفسه عليها في كل مكان تتواجد فيه ابنته ، يتلصص عليها في عملها ، ويقتحم المكان فقط من أجل أن يشعرها كم هو يحبها ، وانها يجب أن تغير حياتها ، فالحياة تنتهي ومن الجرم أن تنتهي بلا لحظات سعادة ، ذكاء المخرجة جعل من حكاية بسيطة كهذه فيلماً يفيض حيوية ومشاعر مؤثرة في رؤيته حول مفهوم السعادة ، الحب ، والعلاقات العائلية ، وبتفاصيل صغيرة ولكنها مليئة حيوية ، انها كينونة الطبيعة البشرية .
في واحد من أجمل مشاهد الفيلم يجلس الأب عند البيانو ليعزف ثم يخبر الجميع إن ابنته مغنية رائعة ، تغني الابنة وتستولي على القلوب ، تذوب في أدائها مع عزف الأب ، لحظات تجانس الحياة وسط زحام الملل والروتين ، لقد نجح الأب في تغيير نمط حياة ابنته اخيرا ً ونمط حياة من يعيشون حولها ، لحظات تعرّى الجميع فيها وادركوا أهمية الحياة والسعادة ، فقد استطاع الأب ان يجعل الجميع يولدون من جديد.
مثل هذه التحولات احتاجت المخرجة الى ممثل ماهر يدرك اهمية هذه التفاصيل ويجسدها بمصداقية ، وما قدمه الممثل (بيتر زيمونيشيك) كان صادقا وعظيماً وصل لحد التماهي في الشخصية بتعبيراته التي يحاول أن يقدم السعادة للآخرين فيما يتألم من داخله ، كان فيلسوفاً وبوهيمياً ، طفلاً وحكيماً ، أما الابنة ( ساندرا هولر ) فقد قدمت آخر ثلاث مشاهد في الفيلم اداءاً يبقى راسخاً في البال .
المخرجة ( مارين آدي ) سبق أن فازت بجائزة الدب الفضي في برلين عن فيلمها ( كل شيء آخر) وبعد صمت سنوات تعود بهذا الفيلم الشفاف والذكي باداء ممثليه وحواراته الذكية لتنتصر في النهاية للعائلة وتماسك الأسرة على عبثية الحياة وروتينها.