حسب ما ترويه لنا القصص والأساطير الدينية القديمة، كانت حاران بمثابة القبلة التي يلجأ إليه الفارون. المركز. وحسب الزاوية التي ينظر منها المرء لها، ممكن أنها كانت في العصور الغابرة المدينة الحدودية الأخيرة لأرض وادي الرافدين، أو المدينة الأولى خارج حدود وادي الرافدين، وفي الحالتين، هي مثلها مثل مدن حدودية عديدة، تعيش مزدهرة، يعيش فيها أقوام مختلفة، لأنها ليست مكاناً لتبادل الثقافات والمصالح وحسب، بل هي المنفذ، الميناء الأرضي لممالك أخرى، في هذه الحالة، لعبت حاران دور نقطة العبور،( التراسنيت) باتجاه البحر، باتجاه شمال الغرب، باتجاه ما سيُطلق عليه لاحقاً طريق البلقان. وبعد قرون، بعد أن تمر أزمنة طويلة، عندما ستندثر حاران، ستتسلم مكانها، مدن أخرى إلى شمالها الغربي، ستشتهر مثلها وتدخل التاريخ، مدينة ميليت مثلاً.
لنعاين ما حدث حول حاران: أنها لمفارقة بالفعل، فبالتوازي مع هجرة إبراهيم وعائلته ونفر كبير من السومريين بالتأكيد، باتجاه الشمال، حاران، بدأت حركة هجرة أخرى باتجاه الجنوب الشرقي، شرق البحر الإيجي (شمال غرب حاران) قامت بها قبائل سيُطلق عليها لاحقاً بالأغريق، رغم أن اسمهم يظل بالنسبة للعرب وسكان البحر المتوسط، اليونانيون، استقروا هناك وأسسوا مدناً انضمت إلى بعضها لاحقاً في حلف مشترك، فيما تأسست حضارة جديدة إلى الجنوب على انقاض انهيار الحضارة السومرية، أطُلق عليها الحضارة البابلية، اليونانيون من الشمال، والبابليون إلى الجنوب.
القاء نظرة إلى حركة الهجرة شمالاً وجنوباً، سيساعدنا بلا شك على معرفة سبب توقف حركة التجارة والتبادل الثقافي بين الأقوام/ الشعوب جنوباً وشمالاً، هذه الفرضية التي يمكن ملاحظتها في أماكن عديدة من العالم، تتجلى في طريق شبه جزيرة البلقان والمناطق المتاخمة لها، ولا يهم أنها ابتعدت عنها بضع آلاف من الكيلومترات، لأنها وبسبب العوارض الطبيعية خاصة، البحار أو الجبال، هي الطريق الوحيد المكمل لهذه الطريق، في حاران مثلاً، تتجلى باكثر وضوح.
لنبدأ بحاران: حركة سير القوافل من بابل باتجاه الشمال قديمة، كان لابد لهذه القوافل وأن تمر بحاران، فهي تسير بالاتجاه المعاكس لمجرى نهر الفرات، كما كان لابد لها وأن تنحرف باتجاه اليمين، بسبب سلسة الجبال التي ستبدأ شمالها، الطريق أسهل للقوافل إذا سارت على السهل المنفتح باتجاه البحر، ثم من هناك، بالذات حيث ستتأسس مدينة ميليت لاحقاً، تبدأ بالسير ناحية الشمال، وهو موقع حاران هذا الذي تميزت به، مكانتها، هما ما جعلاها تصبح القطب الذي يجلب القوافل ناحيتها، وهي ظلت وحتى عهود لاحقة طويلة المكان الذي تدور حوله، تمر به الهجرات الكبيرة باتجاهيها، ناحية الشمال وناحية الجنوب.
وإذا لا تكون هذه الهجرات وحركات التبادل الثقافي والتجاري (الإثنان ارتبطا مع بعضهما، أحدهما كان وراء إزدهار الآخر) هي وراء ازدهار حاران بصفتها مركزاً اقتصادياً وثقافياً، فمن الصعب بمكان العثور على سبب آخر جعلها تصبح منذ ذلك الزمان وحتى عقود لاحقة، مركزاً لحركة فكرية بدت متطورة قياساً لمن حولها، حتى وهي تلبس لبوس الدين، كما في حالة الحركة النسطورية، الديانة الصابئية المندائية وعلاقتها بعبادة الكواكب.
حاران تقع عند منبع نهر الفرات، شمال غربها وجنوب شرقها ازدهرت الحضارات، بعد هجرة إبراهيم مثلاً، بدأ نجم حضارة اليونانيين بالصعود في شمال غربها، فيما ازدهرت حضارات عديدة في جنوب شرقها، في اسفل نهر الفرات وقبل مصبه في شط العرب، وبعد اختفاء الحضارة السومرية، إزدهرت حضارة جديدة كبيرة، الحضارة البابلية التي نشأت ما بين القرنين الثامن عشر والقرن السادس قبل الميلاد، والتي كانت تقوم على الزراعة وليس الصناعة، وكانت بابل دولة أسسها حمورابي عام 1763 قبل الميلاد، والتي ستبدأ معها حركة تنقل قوية في الاتجاهين: اتجاه الشمال واتجاه الجنوب، ستكون حاران مركزه. قبل أن تسلمه إلى ميليت اليونانية.
حاران وما أدراك ما حاران
[post-views]
نشر في: 16 يناير, 2018: 09:01 م