إحياناً لا يرغب الناس في سماع الحقيقة ... لأنهم لا يريدون أن تتحّطم أوهامهِم، كما يذهب إلى ذلك " نيتشه ".
" مرّت الحربُ من هنا ... ولم يسلم منها بيت أو تسلم منها ذكرى، حتى الموت نفسه يبدو لي ملطخاً ... مشوّهاً " كما يرى و يصف " أمين معلوف ".
يَحدث أن يكون الموت مصادفةً مُفجعة ً،أو جراء حادث أو مرض وما قارب أو شابه، لكن أن يتحوّل إلى فعلٍ دموي، جماعة و قصدي مرهونٍ بساديةٍ متوارثة، تترّواح ما بين بث مخاوفٍ وتوريد إدعات وصلف تبريرات تتسّتر بضخ أساليب قهرٍ و إذلال، وأفانينَ ترويعٍ و تمريرات مهازل عبر مسارب الترويج والتلويح بها وصولاً لغاياتٍ أبعد ما تكون عن أصل وفصل الحقيقة، التي قال عنها " شكسبير" من إنها تُخجل الشيطان.
لابد - حتماً- سيختلف أمر النظر إلى كارثيّة هذا الموضوع، وكشف دوافع عوراته وغوامض مخابئه بشتى صنوف المعرفة والفنون التي ترتقي بالقيم وتعلي من شأن الإحساس بجمال الحياة وسُبل الدفاع عن معنى وجودها الحقيقي فينا .
لا أذّكرُ - بالضبط - من قال : " يُعلمنا الخوف ... أكثر مما تُعلّمنا الكُتب" هنا ... ينبغي سحب أنفاسٍ كاوية، وزفرات حَرى بوهج ملتاع يصبو لأن يداني و ينوش مجسات كل ذلك التأريخ المتخوم بأنين الآسى ومتواليات ظلم و حيثيات جحود متراكم بحق إنسانيّة الإنسان ، أين ما كان، ذلك العدوان الغاشم والمتآخي والمتأصل في ثنايا وخبايا ما تضمر تلك النفوس الشريرة بعطشها الدائم للموت والدم، بعد أن أضحى الظلم ممتّداً متغلغلاً بأنساغ جذور عُمرِ أعتى الدكتاتوريات التي شهدها عالمنا الأرضي، وما نتج عنها و تفرّخ في مفاقس الحروب و نوازع الإقتتال، وما ترّبى منها وترّعرع في أحضان مَجانيّات الموت و جنونات متوالياته على النحو الذي يدعونا تعريّة و إدانة كل تلك الأساليب و الألاعيب القذرة التي يبرّر لها و يروّج ما ينعتون أنفسهم ب" القادة التأريخييّن" أرباب أولئك الطغاة الذين يصنعون تأريخاُ موهوماً، مزيّفاً وملّوثاً ومزكوماً بروائح الحروب وسطوة مصائبها ونتائج تداعياتها، وكما هو معروف فأن قرار إعلان شن الحرب أبسط بكثير من قرار إنهائها أو وضعِ حدٍّ لها.
رائحة العنوان النفّاذة
على منوال هذا الوهج و بهذا النهج التقريعي - الإبدعي المتداخل و المنسوج بلوازم فكريّة يقظة، حاذقة إستضاءت به مسرحيّة المخرج " عماد محمد" المنضوية تحت عنوان "رائحة حرب " ولنِفَس هذا العنوان المُعد - أصلاً- بشراكة وعي مثابر مدعم بنوع من توريات ومقاصد بليغة من لدن الكاتب المسرحي " مثال غازي" والكاتب والسيناريست التونسي " يوسف البحري" عن رواية للكاتب الفلسطيني " أكرم مُسلّم " المعنونة " ألتبس الأمر على اللقلق " وليشكّل هذا الثالوث نسقاً معبرّاً عن حميميّة وحتميّة هذا التلاقي العربي المشترك، نعود لنقول- مجدداً- أن لِنفس عنوان مسرحيّة " عماد محمد " والتي جسّد أدوارها الكبير " عزيز خيّون، بدور - الجد " والكبيرة " عواطف نعيم، بدور-الجدة " والمبدع المُتجددّ " يحيى إبراهيم ، بدور- الحفيد " فضلاً عن إسهام المخرج بصياغة " السينوغرافيا " وتقنيات العرض السينمائي مع المبدعيّن " هشام كاظم " وتحسسات المؤثرات الصوتيّة ل " علي أكرم " كذلك الديكور الذي أبدع فيه " محمد عودة النقّاش" مع "علاوي حسين" وبما يضفي لتطويع المرامي الفلسفيّة والجماليّة ، إحالة قصديّة مختلفة عن كل أو أغلب الأعمال المسرحيّة التي تناولت موضوعة الحرب وتُسمّت بأسمائها سواء أكان ذلك بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ولعل جديّة تلك القصديّة الواثقة من عندات مخرجٍ مبتكر وبجدارة وجرأة إختلافها يكمن بروح التوّجس و درجات التحسس الحذر بنفاذ رائحة حرب، وإذ يأتي الاسم-هنا- على هيئة " نَكِرة " أي غير مُعرّفة ب" أل " إنمّا لكي يعطي بُعداً دلاليّاً لإستمرار و ديمومة غموض مسببّات وقوع الحرب " أي حرب كانت " وفي أي مكان ، وتحت اي طائلٍ أو تصوّر ينبىء بطغيان هذا الشبح القاسي، المخيف و المرعب حدّ الذهول، كما كانت -ولم تزل- البشريّة -عموماً - تتشمّم رائحة الطاعون منذ عصور خلت، حتى أن أسم هذه المرض أضحى أقترناً بالموت المُحتمّ، كما تختفي تحت هذا المسمّى "رائحة حرب" بما يشي بالتحذير وقلق التساؤل و هاجس الرِيبة جراء ما يحمله من نذير شؤم، و شواخص خبرة منها ما يقع في حيّز " الشعور " والآخر في حيّز " اللاشعور "، ربما قد تتاخم أو تحادد فكرة تحذيرات " هيراقليدس " وهو ينصح قائلاً : " في بحثك عن الحقيقة كُن متأهباً دوماً لما هو غير متوقع، لان الحقيقة مُنهمكة في البحث عنها ... وباعثة على الحيرة عند إيجادها ".
إلتباس الأمر على اللقلق
تبنّت هذه المسرحية لغة تحاوريّة مُثقلة بتناقضات طرحٍ و لوامح فكرٍ تدميريّ تَمّثل بشخصية "الجد" الذي هو جنرال سابق تمرّس على القتل والترويع والتبرير لمجمل فجائعِه وغموض أسراره وتناقضات إزدواج ما يحمل وحقيقة ما يفعل و طبيعة ما يبررّ ويناور و يرتدي من أقنعة و وجوه تبعاً لتلبيةً دوعي ما يسكنه من نوازع عنف و عدوان ، أمام سوانح إنفتاح ما تحمله " الجدة " من إشراقات أمل و نزوع غامر للحبّ والخصب والحياة، وهذا ما يجعل العلاقة بين الزوجين- في نهاية الأمر وطبيعة الحال- خانقة، متناقضة، حادة و متطرّفة، نتج عنها إضطراب شخصيّة " الحفيد " الذي تتراوح أسئلته المسننّة والواعية ما بين خوفٍ و تمرّدٍ وحيرة بلوى أخذت تتوالد لتنتج أخرى تتسع وتكبر لتصل إلى سلسلة ممتدة ومعقدة من حمم مشاعر و تدفق قناعات و تشابك أفكار و تناقضات رؤى، أودت بالحفيد للإصابة بحالات ألتباس و تشويش حفلت مجتمعةً عبر توالي فقدان الأب/ أثر قسوة الحرب/ و طغيان الجد، الذي طوّق الحفيد الملتبس بمناسيب حالات و خواص سلوكيات حائرة ومدحورة وخائبة
جراء هول تلك التناقضات وجدل عصف غموض إجابات " الجد " المحرّض الدائم على فكرة الموت وإشعال فتيل الحرب، والتلويح بها حتى غدت نهجاً وسيرة و وجوداً، فيما " الجدة " التي حرصت على أن يقف " اللقلق " على رجلين لا رجل واحدة، احاقت بالرجل-الحفيد وجعلته محبطاً خائفاً حائراً،بسبب جملة ن إلتباساتٍ وإستمالاتٍ قوّضت من أصل وجوده في الحاضر، ثم أضاعت عليه فرص النظر للمستقبل بأكثر من عين، أدى دور" الحفيد " بجرأة وعي وجدارة فائقة الممثل ا" يحيى إبراهيم " إلى جنب جبليّن أشميّن في عمق مهارة خبرة وتصاعد قدرات أدائية فائقة الأثر و التأثير لكلٍ من " عزير" و " عواطف " كما أشرنا في بدء تعبيد الطريق نحو هذا العمل التتابعي بخوالص منهجيات الشجب والرفض و تصويب الإدانة القادرة على تثوير المشاعر و توسيع مدارك المتلقي بالمستوى والقدر الذي يداني حجم كمية الأضرار الفادحة وكثافة الشرور التي تركت ميراثاتها هذه الأنظمة وهي تزج بشعوبها بحروب وحصارات و أكاذيب ثورات خاوية والتي سعت وبرعت مسرحيّة " رائحة حرب " إلى تلخيص الكثير من جوانبها و رجرجت من نسق إلتباسات متتابعة راحت ضحيتها أجيال تلو أخرى لم ترث تنال وترّث غير العوق الذهني والنفسي والفكري والوجداني و تبعات ركام خسارات مُتعاقبة من دون أي إنقطاع.
دواعي غياب الأب
لقد جاء وأد دور الأب قصداً إجرائياً مُلهماً ومُحرضاً في الحث على أثر فعل إنقطاع صلة الأجيال مع بعضها من خلال " الحفيد " الشاب اليتيم الذي راحت تتلاطمه أمواج قناعات " الجد " بالتروج للموت بشتى الأشكال و الأدوات الممكنة والمتاحة، وما بين إشراقات " الجدة " وأملها المنشود في صنع الحياة وتصحيح مسارات عافيتها من خلال هذا الحفيد الذي أبتكرت تسميته ب" اللقلق " لكي تدرأ عنه لعنة الموت، كما هو متبع وسائد في عقائدنا الشعبية حين تضطر الأم أو من ينوب عنها بتبديل أسم الوليد إلى أسم غير محبّب أو غير مستساغ، للغرض النفسي والعقاتدي الذي أشرنا إليه - قبل قليل- صداً لإبعاد الموت عنه.
يقول " ميلان كونديرا " في متون أحدى رواياته: " لعل المشكلة الكبرى في الحياة الخاصة هي الموت بوصفه فقدان الذات، لا على انها خلاصة لكل ما تتذّكر تلك الذات، و أن ما يرعبنا في الموت ليس فقدان المستقبل، بل ضياع الماضي، و أن النسيان ما هو إلأ شكل من أشكال الموت "
وكان أن شُكّل ذلك الغياب المدروس والمحسوس لدور " الأب " في سياق العرض الكامل لمسرحيّة " رائحة حرب " بما يغري ويثري المخيلة ويزيد من حِمم التفكير بما يجب أن يكون عليه حال الإنسان ومصيره الملتبس في مثل هذه البلدان التي لم تتخلص بَعدْ من جثوم ونفث سموم ما تطلقه تلك الأنظمة الهاظمة لحقوق شعوبها تحت غواية التشبث بالسلطة مهما كلّفها ذلك من أثمان باهضة على حساب مصائر أُناسها والسعي لزجهم في حروبٍ خاسرة،جائرة وقودها الإنسان والحجارة، وكما لو أن تلك الأنظمة و رموز القمع والقتل من سلالات هذه الديكتاتوريّات تؤمن أو تردّد مع نفسها عبارة " على العلا حتى ولو على الخازوق ".
بعد ما ورد لابد من تعظيم قيمة أثر، بل مآثر ما خلص إليه ذروة النسق الختامي الذي لجأ إليه المخرج " عماد محمد " بمعاضدة نابهة،سامية وصادمة من صانع ومبتكر "السينوغرافيا " وترويضها على " الداتا- شو " عبر تثوير ثلاث نهايات متوالية تشمّمنا في المشهد الأول من ضفاف نهاية العرض رائحة الموت بالخنق من خلال سدّ الديكتاتور لكل منافذ الخروج من السجن الذي طوّق به الجدة والحفيد، وفي مقترح النهاية الثانيّة من خلال رميهم بالرصاص وفي الثالثة أهاج عليهم ألسنة لهب نيران الحرائق الهائجة، فيما ينبثق الأمل من خلال أسراب الطيور والبط واللقالق، بمراسيم ختام مجترح بعناية تفكير وبراعة تلويح بأن الحياة أقوى من الموت، وان العالم بحاجة إلى دقات قلب، لا إلى قرع طبول الحرب.
تجدر الاشارة ان هذا العمل الذي أنتج من قبل الفرقة الوطنية للتمثيل التابعة إلى دائرة السينما والمسرح كان تمّ عرضه على خشبة المسرح الوطني بمناسبة يوم المسرح العالمي 27 أذار من العام/2017، كما تمّ ترشيحه ممثلاً للعراق في أعمال مهرجان المسرح العربي الذي تعقده الهيئة العربية للمسرح بنسخة دورته العاشرة في العاصمة تونس للفترة من العاشر ولغاية السادس عشر من كانون ثاني هذا العام.
جميع التعليقات 1
Nas T Alrahim
السطور اعلاه ليست نقدا بل فهلوة لغوية لعرض فقير اخراجا واداءا .. اي نقد هـذا الـذي يضع وصف الكبير والمبدع قبل اسم اي ممثل في العرض .. يذكرني الاخ كاتب السطور بمؤرخي حضارتنا او ناقديها حيث يلحقون باسم اي شخصية يتناولونها بوصف رض قده ما يعني تنزيههم