TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > البورتريت الأخير

البورتريت الأخير

نشر في: 14 يناير, 2018: 09:01 م

أعمالُ الكاتب، والفنان، والموسيقي عادة ما تملي على مخيلة القارئ، والمشاهد أو المستمع، قسمات بعينها للصورة الشخصية الحية لمبدعها. وهذه الصورة التي تجمع بين تجاعيدها طبيعة المبدع، وأهوائه، وسلوكه، وحركته، والتي تنطبع في ذهن المتلقي، إنما هي من إسهام مخيلة المتلقي بالدرجة الأولى. إنه هو الذي يضع الصيغة النهائية التي يرغب بها لبورتريت المبدع، لا في الهيئة وحدها، بل في الأهواء النفسية، والسلوك، والتصرف. كتبُ "السيرة" عن المبدع، و"السيرة الذاتية" التي يكتبها عن نفسه، قد تُسعف في استكمالها، ولكنها غير كافية لزعزعتها من مخيلة المتلقي. وحدها السينما القادرة على ذلك.

يحدث هذا معي دائماً. أقرأ الشاعر نيرودا، وأرى صورته الفوتوغرافية، فأستلهم منهما طبيعةَ شخصيته في الأهواء والسلوك. ولكن ما إن أرى فيلماً سينمائياً عنه، فيه قدر من نجاح المعالجة، حتى تحتل الشخصية السينمائية شخصيته التي استلهمتُها من قصائده وفوتوغرافه. إن بورتريت الفوتوغراف يكتفي بثانية خاطفة ثابتة من شخص المبدع. وهي بالضرورة، إن لمْ تكن خادعة، غير وافية. بورتريت اللوحة أو النحت خلطة تجمع بصورة معقدة بين ملامحِ الشخصية وبين عواطف الرسام او النحات وحساسية بصره. في فن السينما لا يعتمد المخرج "ثانيةَ" الفوتو الخاطفة، الثابتة إلى الأبد، بل تتجه رؤيتُه ومشاعرُه نحو خلق كيان حي في الممثل، يستعيد فيه الشخصيةَ وهي في صيرورةٍ داخل زمانها ومكانها، بصورة تكفي لأن تترسخ في مخيلتك وذاكرتك. مازلت أتذكر بوضوح، وبفضل السينما، شخصيات بيتهوفن، شومان، برامز، تشايكوﭭسكي، لِست، شوﭘان، ﭘوتشيني، ﭭاكنر دَليوس/ شيكسبير، بايرون، كيتس، ديكنسون، أليوت، ديلان توماس، لوركا، نيرودا، كِنْزبيرك/ مايكل أنجلو، كاراﭭاجيو، كويا، ﭭان كوخ، لوتريك، رينوار، فْريدا، مودلياني، تيرنر، أدورد مونك، بيكون..الخ. والأفلام التي أُخرجت عنهم جيدة في معظمها، ولقد تعرضتُ للعديد منها في عمودي هذا.

في لندن اليوم فاعليتان عن جياكوميتي (1901 ـــ 1966)، النحات والرسام السويسري/ الفرنسي: معرض موسع في Tate modern، وفيلم جديد. لن أتعرض لمعرض جياكوميتي، فقد سبق أن فعلتُ ذلك، وسأقتصر على الفيلم، الذي يمتد لساعة ونصف، ويكاد يقتصر، في المكان، على ستوديو الفنان في باريس، وفي الزمان على بضعة أيام صرفها في رسم بورتريت لناقد فن أمريكي يُدعى "جيمس لورد"، كان في زيارةٍ سريعةٍ لباريس ولجياكوميتي. عنوان الفيلم "البورتريت الأخير" The Final Portrait، لأن الفنان توفي بعد بضعة أشهر من إنجازه. بالرغم من أن كلمة "إنجاز" لا ترضي جياكوميتي، لأنه يُعلن في الفيلم أكثر من مرة بأن من المستحيل إنجاز عمل فني، كما حدث مع بورتريت الناقد "لورد".

عناصرُ الفيلم إذن محدودة: جياكوميتي، لورد، دييـكو (أخو الرسام الذي يكتفي بابتسامة شبه ساخرة من أخيه المولع بجلد الذات)، أنيتّي (زوجته المُهمَلة)، ﭘويسي (عشيقته المومس الملهِمة)/ ستوديو بالغ الفوضى/ لوحة بورتريت واحدة لا يتوقف الفنان القلق عن معاودة رسمها/ زمن محدود على مدى أسبوعين يتكرر/ ساعة ونصف فقط تحرص على أن تمنحك محصلةً غنية عن طبع بالغ الغرابة.

يعتمد الفيلم حدثاً حقيقياً، كان جياكوميتي فيه قد دعى الناقد الأمريكي الشاب جيْمس لورد أن يجلس له كموديل عام 1964. يعده أن يُتم العمل بساعات معدودة، بعدها يخبره بأنه يحتاج لأيام معدودة، ثم لأيام إضافية. وهكذا يتواصل التأجيل تحت وطأة شكه بذاته، إذْ ما أن يُتم البورتريت حتى يمحوه ساخطاً بدعوى أنه غير صالح، مكرراً على أسماع "لورد" بأن العمل الفني، أي عمل فني، لا يمكن ان ينتهي. الناقد "لورد"، عند عودته، يكتب في مذكراته كل ما حدث. كاتب السيناريو، وهو مخرج الفيلم "ستانلي توتشي"، يعتمد هذه المذكرات.

الفيلم كوميدي لأن الأهواء السائبة لجياكوميتي الانسان والفنان مليئة بالمفارقات والغرائب. والفيلم غني لأن جياكوميتي في عمله الفني، وفي ارتيابه الذاتي، واستسلامه للعبث، ولا مبالاته بشأن مردود الفن من جاه ومال، عينةٌ حية للفلسفة الوجودية التي كانت تملاً مناخ باريس آنذاك. قام بدوره الممثل البارع، المماثل في الشكل، "جيفري راش".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

العمود الثامن: صنع في العراق

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

 علي حسين منذ أن اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والطاولات الشيعية والسنية تعقد وتنفض ليس باعتبارها اجتماعات لوضع تصور للسنوات الاربعة القادمة تغير في واقع المواطن العراقي، وإنما تقام بوصفها اجتماعات مغلقة لتقاسم...
علي حسين

إيران في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة

د. فالح الحمـــراني تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، الصادرة في تشرين الثاني تحولاً جوهرياً عن السياسات السابقة لإدارتي ترامب وبايدن. فخلافاً للتركيز السابق على التنافس بين القوى العظمى، تتخذ الاستراتيجية الجديدة موقفاً أكثر...
د. فالح الحمراني

ماذا وراء الدعوة للشعوب الأوربية بالتأهب للحرب ؟!

د.كاظم المقدادي الحرب فعل عنفي بشري مُدان مهما كانت دوافعها، لأنها تجسد بالدرجة الأولى الخراب، والدمار،والقتل، والأعاقات البدنية، والترمل، والتيتم،والنزوح، وغيرها من الماَسي والفواجع. وتشمل الإدانة البادئ بالحرب والساعي لأدامة أمدها. وهذا ينطبق تماماً...
د. كاظم المقدادي

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

محمد حسن الساعدي بعد إكتمال العملية الانتخابية الاخيرة والتي أجريت في الحادي عشر من الشهر الماضي والتي تكللت بمشاركة نوعية فاقت 56% واكتمال إعلان النتائج النهائية لها، بدأت مرحلة جديدة ويمكن القول انها حساسة...
محمد حسن الساعدي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram