يمنحنا العدد الخاص ( 217، لسنة 2012)، من المجلة المعمارية الإنكليزية المعروفة "التصميم المعماري" Architectural Design (AD) ، والمكرس إلى عمارة إيران، المعنون" إيران: الماضي، الحاضر، والمستقبل"، يمنحنا فرصة مواتية لمشاهدة وتعقب المشهد المعماري الإيراني المجاور لنا، و"التعرف" عليه، هو الذي، مع الأسف، لا نعرف عنه الكثير، وعن إنجازاته، وخصوصا المعاصر منها. كما لا نعرف أسماء مبدعيه ،رغم أن هذه "المعرفة" والاطلاع، يعتبران أمراً ضروريا ونافعاً للمثقفين بعامة، وللمهنيين على وجه الخصوص. ذلك أن حضور المعرفة الابيستمولوجية ( والمهنية أيضا) "المجاورة" في ثنايا الخطاب الثقافي المحلي، يثري، من دون شك، نوعية ذلك الخطاب ويوسع من آفاقه. وفي هذا الصدد، كتبت مرة، في مقال لي سابق، عنونته:<تركيا.. "العمرانية">،وأشرت فيه إلى مسوغات التعرف عن منجزات البلدان المجاورة، ثقافيا و..معمارياً. وقلت في حينها "..وتركيا المجاورة لنا جغرافيا، والقريبة منا ثقافيا ..وتاريخيا، لا نعرف عنها الكثير، وخصوصا في مجال العمران الحديث، مثلما لا نعرف كثيرا، بالمناسبة، عن العمران الحديث في إيران أو الهند أو باكستان؛ رغم أن ضرورات المعرفة إياها، مسوغه ومبرره على قدر كبير. ذلك لأن تشابه الوقائع الاجتماعية والثقافية، وشبه تماثل الظروف المناخية والتاريخية المؤسسة للقرار التصميمي، يجعل من اطلاع ومعرفة ودراسة وتحليل الشأن العمراني التركي (وغير التركي بالطبع)، أمرا غاية في الأهمية، لجميع معماريينا ومصمميينا بغية تلافي أخطاء التجريب، أو لجعل الذخيرة التركية نقطة انطلاق لمشاريع تصميمية ناجعة في منطقتنا العربية". أعرف، أن ما يعوق الانفتاح على "الآخر" ويقف حائلا دون معرفته، معرفة حقيقية وواقعية، وفهمه من دون أوهام أو تصورات مسبقة، هو ما يعرف بـحالة (غلبة السياسي على الثقافي). وهي حالة، أشرت إليها أيضا في مكان آخر، وأعتقد أن التذكير فيها هنا، سيكون أمرا مناسباً ومتمما للفكرة التي أود إيصالها للمتلقي، الفكرة التي أُشايعها،وأرغب في أن أقدم نفسي بها للآخرين. فـ "ليس ادعاءً، أن اعتبر نفسي، احد مناصري (.. وحتى مروجي!) معرفة "الآخر" المختلف، وفهمه فهما معرفيا عميقاً. وأجد في هذا المسعى "النبيل" ( ..إن شئتم)، إثراءً ثقافيا وابستمولوجيا لي، وطبعا للآخرين. وأقولها بحسرة، بأن "ثقافة" معرفة الآخر واحترامه والتعلم منه، غير رائجة في مجتمعاتنا العربية، بل وحضورها لدى كثر يقترن بالغياب، وبعضهم يعتبرها ثقافة "دخيلة" ، تنضوي تحت مظلة الحروب "الثقافية" التي تشن علينا بلا هوادة من مختلف الثقافات "الأخرى"!. وكأن التعرف على الآخر والتعلم منه، هو بمثابة "سُبّة"، أو سمة سلبية يتعين اجتنابها. وما نراه الآن رائجا في المشهد، هو فائض سطوة الفعل السياسي على كل ما عداه؛ الفعل الداعي بضجيج عال، لرؤية نجاحات الثقافات الأخرى واختزالها في مماحكات سياسية عابرة، تسهم في طمس تلك النجاحات وعدم الاعتراف بها. .. وما نقرأه من دعوات وما نسمعه من مفردات، هو في الواقع صدى لتغليب الجزء على الكل، غلبة السياسي على الثقافي؛ وبالتالي فنحن في مأزق حضاري حقيقي، سببه الطروحات الإلغائية والتحصن في "مركزيات" متوهمة. والخروج من هذه الحالة ممكن فقط عندما ينصاع الفعل السياسي المبني على أوهام وتلفيقات مضللة إلى سلطة المعرفة، المعرفة الداعية إلى تقبل الغيرية في الهوية، والمختلف فيما هو مؤتلف، والداعية إلى انفتاح الشعوب لا إلى انغلاقها". تختزن بلاد فارس على أديمها، الكثير من النماذج المعمارية ذات القيمة التصميمية والتاريخية العالية. وتمتلك إيران، أمثلة مميزة لمنتج العمارة الإسلامية، عُد بعضها، وفق كثر من النقاد، من كنوز شواهد تلك العمارة المجيدة. ولعل هذا "الجانب" المعماري، هو الجانب الأكثر معرفة وشهرة لدى كثر من المهنيين والمثقفين الآخرين. لكن الأمر يختلف في ما يخص الحديث عن المنتج الحداثي المعماري الإيراني، ولاسيما المعاصر منه. فماهي، ياترى،انشغالات الخطاب المعماري الإيراني الآن، وبمَ هو مهموم تصميمياً؟ بالطبع، تظل إشكالية حضور الموروث المعماري القديم في المنتج المعماري المعاصر، ضمن أولويات قضايا الممارسة الحداثية الإيرانية وانشغالاتها. وتمثل بعض الحلول التصميمية لتلك الإشكالية أحد أهم منجزات المشهد المعماري الإيراني. لنتذكر، نصب آزادي (الحرية)<نصب الشهيد سابقاً> (1971)، المعمار: حسين آمانات، الذي تمثلت فيه مقاربة المعمار الشاب وقتها (ولد آمانات سنة 1942)، في كيفية تطويع قيم الموروث البنائي السابق، في واحد من أجمل مباني المنطقة على وجه العموم، هو الذي اعتبر، ومابرح يعتبر، بمثابة "أيقونة" بصرية للعاصمة الإيرانية. وتثير بعض تصاميم هذا المعمار المجد، الذي يقيم في كندا منذ أن غادر بلده في عام 1980، اهتمام النقاد المعماريين ومتابعي المنتج المعماري الإيراني الحداثي. ويقول عنه البروفيسور "داراب ديبا"، وهو أستاذ العمارة في جامعة طهران، وأستاذ زائر في معهد ماسوشوسيت وهارفرد، وفي مدرسة العمارة بباريس وغيرها من الجامعات العالمية الأخرى ".. ينزع حسين آمانات (مع معماريين آخرين)، إلى تحقيق "هوية ثقافية" في العمارة الإيرانية. ... إن مقدرته الكبيرة في الربط بين الأشكال الهندسية الصافية، والمحاور الأساسية القوية، وتوظيفه للأفنية، واستعماله البارع والمتقن للخرسانة والطابوق، يجعل من إنجازه المعماري إنجازا نفيسا وقيماً". يعد المعمار "سيد هادي ميرميران" المولود في قزوين سنة 1945، والحاصل على شهادة الماجستير في العمارة من جامعة طهران، يعد الآن، من المعماريين الممارسين المعروفين في المشهد المعماري الإيراني. فهو إضافة إلى كونه أستاذاً للعمارة في جامعات إيرانية عديدة، مثل جامعة طهران وجامعة آزاد الإسلامية وغيرهما. فإنه مؤسس مكتب "نقش جهان" الاستشاري، ولهذا فان المجلة إياها، تفرد له ولمنجزه التصميمي حيزا مهما من متنها، وتستهل بكلماته أولى صفحاتها. يقول سيد هادي، وهو يوجز مقاربته التصميمية " ..بالنسبة إليّ، فان بدء العملية التصميمية، التي اعتبرها مرحلة هامة، تكمن في إيجاد <نقطة التحول التصميمية للمشروع>. وهذا يعني المقدرة في معرفة كنه التصميم وجوهره، هل هو يتمثل في هيئة (فورم)، أم في مفهوم، هل يتعين عليه أن يكون حافلاً بالشعرية، أم زاخراً في هواجس تذكارية. في بعض الأحيان،أتمثل ذلك الجوهر حلماً،وربما أسطورة ..وأحيانا مثلاً أعلى!". سعى "سيد هادي ميرميران" منذ الثمانينات، وراء إيجاد مقاربة خاصة به، مقاربة "ثالثة": لا تنشغل في تقليد نماذج الحداثة الأوروبية، كما أنها لا تنزع إلى استنساخ أشكال المباني التقليدية، فهو كما يقول عنه صديقه وزميله المعمار "سامان سيار" الأستاذ في جامعة آزاد الإسلامية بان " ميرميران اصطفى مقاربة إيرانية فريدة من نوعها، تدين كثيرا بمرجعيتها إلى بساطة شكل جسر أصفهان القديم ذي الـ 33 عقدة، وهندسيته الواضحة، وتمزج ذلك مع نهج ميس فان دير روّ". يؤمن هادي ميرميرمان بأن جماليات التصميم الخاصة به تطور "الفورم" المعماري، من خلال الاعتقاد الراسخ بأن العمارة في مناطق مختلفة وفي أزمنة مختلفة، غير معزولة، كما أنها غير فردانية، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى، فان مثل هذا "الفورم" يتوق إلى ربط مبناه إلى ثقافة محددة، ذات خلفية تاريخية معينة. فالأعمال المعمارية الأصيلة، كانت دوما تمتلك أوجه تشابه عديدة مع غيرها. وهذا الاعتقاد يمكن أن نراه في استعارات رمزية، معبر عنها بإيماءة مختزلة، تكون دائما في حدها الأدنى. ففي مقترحه لمشروع " المكتبة الوطنية الإيرانية" (1995)، يلجأ ميرميران إلى توظيف مدلول قديم، لما يسمى بـ "اللوح الذهبي المحفوظ"، كرمز للمعرفة. إذ تعتمد الفكرة الأساسية للمشروع، على حالة اختراق "ضوء" المعرفة "لظلمة" الجهالة، وفقاً لكلمات قصيدة لشاعر إيراني قديم. بالطبع أن فكرة "النور" و"الظلمة" كاستعارة للمعرفة والجهل، هي فكرة رائجة ومعروفة لدى ثقافات عديدة. لكن تمثلاتها هنا، في مشروع المكتبة، تبدو إيرانية بامتياز. فالقسمان الرئيسيان للمكتبة، وهما: مخزن الكتب المغلقة، وقاعات المطالعة وقعتا في المكان المعتم؛ الذي يجمع حيزهما ويغطيهما السقف الزجاجي الذي يحاكي شكله سلسلة جبال "دامافند" القريبة. وهذا الغلاف الزجاجي الشفيف يجمع عناصر المشروع، ويحدد أشكال هيئاتها. فوراء هذا الغطاء، ثمة قاعات للمطالعة عديدة، "تسبح" في الفضاء مشكلة محور أساسي ممتد. ما يجعل من عمارة مبنى المكتبة الوطنية، لان تكون تجسيداً، موفقاً كأحد الأمثلة التي استطاع "سيد هادي ميرميران" بها،تنطيق رموز الثقافة الإيرانية وأساطيرها، مظهراً، في الوقت ذاته، كيفية ترجمة تلك الأفكار والحكايات إلى إشكال معمارية. ثمة موضوعة آخري، وهي أيضا مستقاة من الموروث المعماري الإيراني القديم، تتمظهر، بقوة، في أعمال "ميرميران" المعمارية الحداثية، متمثلة في الشفافية والخفة. ففي مبنى "السفارة الإيرانية" في بانكوك (2006)، يتعامل المعمار مع الكتلة الداخلية للمبنى بشكل خاص، مدمجاً إياها، مع حديقة "الخطوط" المائية المستمرة، التي تخترق مبناه. إنه بهذا "يمزق" الغلاف الخارجي، جاعلاً من الفضاءات الداخلية، كإحدى مفردات المعالجة الخارجية واستمرار لها. والمعمار بهذا، يعيد إلى الذاكرة، تقاليد واحدة من أجمل القيم التصميمية، التي ترسخت إبان العمارة الصفوية (1501-1736)، والتي تمثلت، تحديدا، في "قصر هشت بهشت" بأصفهان الشهير. بالطبع، لا يمكن التغاضي، ونحن نتكلم عن العمارة الحداثية الإيرانية، عن منتج المعماريين الإيرانيين المقيمين الآن في الشتات. إنه منتج مهم، مثلما هو متنوع. وإذ شتتهم " الديّسبورا"، بفعلها التراجيدي المؤلم ( كما شتت، بالمناسبة، أقرانهم في العراق المجاور)، فإن منجزهم المعماري المميز، مافتئ حاضراً بقوة بالمشهد، مثريا البيئة المبنية التي عملوا بها في السابق، مثلما يثري الآن بيئات متنوعة في بلدان عديدة . في المجلة، ثمة ذكر للمعمار "كامران ديبا"، المولود في سنة 1937، هو الذي ارتبط اسمه، معماريا، في تخطيط وتصميم مباني مدينة "شوشتر" الواقعة في جنوب غربي إيران، التي اكتملت مرحلتها الأولى عام 1977. ولئن لم يرد، في المجلة، ذكر لهذا المشروع، فان ذلك لا يعني البتة، التقليل من أهميته، هو الذي أراه منجزا حصيفا، استطاع المعمار به أن يوظف مادة الطابوق، للحصول على حلول تكوينية جد مبدعة، نابعة أساسا من خصوصية هذه المادة الوقورة، القريبة إلى قلبي شخصيا. وحبذا أعار المعماريون الشباب عندنا اهتماما لتصاميم تلك المدينة القريبة لنا جغرافياً، للتعرف على إمكانات، ما يمكن أن يمنحه الطابوق، من تشكيلات خلاقة ومبتكرة. وقد حازت تصاميم مدينة "شوشتر"، كما هو معروف، جائزة "الآغا خان" المعمارية المرموقة عام 1986. ومعلوم إن "كامران ديبا" هو مصمم أحد أهم المباني الحديثة في العاصمة الإيرانية، وهو: مبنى "متحف الفن الحديث"(1977)، التي امتازت لغته التصميمية على مزاوجة فطنة بين التراث البنائي الإيراني، والنزعات الحداثية لمجرى الممارسة المعمارية العالمية. ويبقى، في الختام، التذكير، مرة أخرى، بمقاصد هذه المقالة، التي سعت وراء إظهار أهمية حضور "الآخر" المختلف في "أنا" تـنا، لجهة المزيد من التنوع والتعددية، وبالتالي المزيد من إثراء الثقافة المحلية معرفيا، وبالطبع ..مهنياً.□□
معمار وأكاديمي /مدرسة العمارة/ الأكاديمية الملكية الدانمركية للفنون
جميع التعليقات 1
مرتضى الحصيني
مقال عن فن العمارة في ايران ولا يوجد حتى صورة واحدة ؟؟! هل يجب علينا تخيل كل ما تقولون يا للهول المدى