يبدو سؤال العنوان مشروعاً ، وأن ثمة مسألة لم يفكر أحد بحل لها. فقد اتخذ الأدب سياقاته في التعبير واعتدنا على موضوعات يهتم بها تكاد تكون هي نفسها عبر الأزمنة إلا تغيراً في النِسب واختلافات زوايا النظر للموضوعات المتداولة ومدى عمق التناول ونضجه. والحقيقة إني اقرأ انتباهات عن هذه المسألة من علماء الاجتماع والمؤرخين الثقافيين لا من الكتاب أو الأدباء، شعرت بضرورة الكلام في هذا والاشارة الى ما قالوا .. أكيد إن الفلسفة أسهمت في تطور مضامين الأدب ومساراته كما فعَل الدين ذلك وما يزال نفوذ الاثنين و تأثيرهما وما يزالان عاملين فاعلين في التفكير الأدبي.
غير اننا نواجه تناقضاً مثيراً، ذلك إن اتساع أثر العلم في حياتنا وأثر العلم في اتجاهات التفكير والوعي لم يجد له تعبيراً مهماً وواسعاً كما يجب في الفنون الأدبية. فالجانب العقلاني و المنطقي للانسان ، غير واضح بتعبيراته العلمية والتكنولوجية ولا يشغلان إلا حيزاً أدبياً ضئيلاً وشواهده قليلة وكأن العلوم كلها، بما فيها ما يخص بيولوجيا الإنسان وفضاءات عيشه، لا تعني شيئاً وإن الأدب مخصص والى الأبد الى موضوعات أخرى. المتوقع أن يكون الأدب، كما يقولون ، مرآة عصره. لكن هذه المرآة غير مبالية بملايين الناس الذين يبذلون جانباً كبيراً من حياتهم مهتمين بتكنولوجيا العصر الذي يعيشون فيه. إن ما نشهده من تغلغل العلم ومنتجاته الى غرف البيوت، بل الى وفي الاجسام و أعضاء الجسم الداخلية، يجعلنا نستغرب قلة اهتمام الأدب بالمديات والتحولات والنتاجات العلمية وما تعد به العلوم من تغير في الحياة.
بعضهم يفسر ذلك "بأن البشر يهتمون بالعواطف أكثر من اهتمامهم بالعقل . وقد تناولت الاعمال العظيمة في الادب والدراما والقصص الجوانب العاطفية وجوانب العنف في الطبيعة البشرية وهي الشيء نفسه نراه اليوم في الصحافة الحديثة، فـ "الاخبار" المهمة هي الاخبار السيئة، بعضها مفجع وبعضها مخيف وبعضها شائن أو صارخ وبما يشبه الافزاع او التحذير. أما السلوك المنطقي، العادي الهادئ، فلا يعد أخباراً مهمة، وهي ليست أخباراً أصلاً.." ونرى اليوم في الفضائيات إن اخبار الهجوم والحرائق والتوترات الدولية والفضائح الاخلاقية هي مادة الصحافة اليومية وهي وراء المبيع بالنسبة للصحف. لكننا عملياً نرى الناس قد توافقوا مع إشكالاتهم الاجتماعية وألِفوا معدّاتهم وآلاتهم وما في السوق والصيدليات من أجهزة ومواد وانهم في معايشة تبدو طبيعية وليست غريبة مع العلوم ونتاجات التكنولوجيا وإن الناس يكسبون عيشهم ويؤدون أعمالهم بهذه الاجواء لكن الأدب يوجه تأثيره وأضواءه لعواطفهم وانفعالاتهم وتقاطع مصالحهم وشؤونهم الاجتماعية، وكأن العلم شأن لغير القراءة الادبية". وان للأدب موضوعاته الأثيرة والدائمة. لا يرِدُ العقل في الأدب الا مولّداً للصراعات او لإحكام الحبكة او العقدة في القصص والمغامرات .
وصل الأمر حداً أن بعض دارسي الأدب حين يواجهه تحليلاً علمياً في منتج أدبي يراه منطقه غير مستساغة أو غير سالكة، أو ليس مكانها في هذا الكتاب، حتى لو كانت تؤدي مهمتها الأدبية ايضاً.
القصص العلمي كانت محاولة ولكنها ظلت معزولة بصفتها العلمية. وإنها صارت ادباً فقط لإنها مثيرة للعواطف أو للعنف أو الأسف وهي موضوعات الأدب المعروفة.
السؤال الآن: كيف يمكن للأدب اليوم التعبير الكامل عن كافة ما يهم الناس، وان نغيّر الاهتمام أو نزيده بانعطافة مهمة الى موضوعات ليست من اهتمامه المعتاد وألا يظل ناس الأدب ، جل اهتمامهم بالحب والكراهية والعنف والاثام الاخرى و انثلامات الفضائل والصراعات العامة في الطبيعة البشرية؟ لا نريد تكنولوجيا صلبة أو صرفة ونحن نقرأ أدباً ولكننا نريد أدباً لا يستثني عالما نحن نعيش فيه وان يظل اهتمامنا حصراً بأشياء قديمة ورثناها وكأن الذي جاء غريباً يجب أن يظل في غربته . بكلام آخر نريد أدباً خصباً بغنى وخصب العصر. يجب ألا يكف تطلّعنا الى ايجاد صيغ أدبية؟ الى أشكال أدبية مناسبة لما في العالم الواقعي اليوم. طبيعة العلوم واتساع وضخامة وجود التكنولوجيا في الحياة لا يمكن أن يظلا بلا تعبير أدبي عنهما. لا نريد اقحامهما في الادب الانساني الجيد ولكننا نريدهما كما الفلسفة وكما الدين ونحن نعرف ذوبانهما ونعرف اشعاعهما فيما نقرأ من أدب جيد.
جرت محاولات تغيير ولكنها كانت ضمن الثقافة الفنية. لسنا ضد التجريد مثلا. هو إحدى المحاولات الجادة، او إحدى المغامرات في التعبير عن الأقصى والابعد. لكنني لا أظن التجريد اليوم هو الأهم او إنه أفضل من محاولة في الكتابة جديدة باسناد الروح العلمي" وبحضور الاثارات او الاقتدار التكنولوجي .. الازدواج وحضور الاهتمامين ليسا غريبين في تاريخ الأدب. افلاطون الفيلسوف له تعاليم عقلانية و هيجل وماركس صانعا ايديولوجيات لكن لا أحد يستطيع نكران مهاراتهما التأملية ومعرفتهما بمستويات الوجود. كما أن اختراع الهندسة التحليلية جاء أصلاً من الفكر الفرنسي وديكارت هو الذي اسمى هذا العلم بـ الفن العظيم Ars Magna وأنه هو قاعدة كل الفنون والمتحكم فيها. نعم هذه نتائج لتطور جاء بخطى متتابعة وببطء. فليكن ولنبدأ بخطى متتابعة وببطء!
مع تقديري العظيم، والعظيم جداً، للأدب فانا لا أرى صواباً أن نستمر على تسليم عقولنا وإراداتنا لتدور بهما المثيرات العاطفية صانعة جل المضمون الادبي. نعم حصلت نماذج قليلة مختلفة لكنها لا تشكل نسبة ذات شأن . قام بهذه كتاب وشعراء وقدموا انتباهات فكرية من ظواهر علمية، بيولوجية او فيزيائية . لكننا لسنا بصدد الغرائب، على اهميتها كبدايات، نحن بصدد حياة معاصرة وادب معاصر ونريد اكتمال معاصرته! نحتاج الى صحوة ادبية تجعلنا نرتضي الظواهر وتأثيراتها والصراعات النفسية والاجتماعية المتولدة عنها. قد نطمح أكثر، الى دعوة الكتاب والفنانين الانسانيين ليقتفوا الدور الانساني الذي يتضمنه النظام التكنولوجي والى الحقائق الانسانية التي يكتشفها ويوجدها العلم. العوز اليوم واضح كل الوضوح، وانشغالنا بما هو عاطفي ومثير استهلك كل أوقات الكتابة. حتى الطبيعية وهي مآل ومعاش الإنسان واجواء حياته واسبابها، حتى الطبيعية لم تحظ بما تستحق من الاهتمام الادبي وما توافر جد قليل ولجوانب محددة منها.
نحن أبداً ما قصدنا جعل العلم واسطة وما اردناه قسراً لتغطية الحدث أو الشخوص، ولا نجهل ما يمكن أن تكون بدايات محترمة من رحلات جنيفر الى فرانكشتاين الى آلة الزمن لـ هـ. ج. ويلز. ثم قصص الخيال العلمي التي وظفت جوانب علمية وتكنولوجية مهمة لكنها أكملت الجوانب الباقية والاكثر تأثيراً بالمخلوقات المرعبة لتعود الى مهمة الأدب الاعتيادية الاولى وهي العواطف والانفعالات والخوف ومشاعر الفقد والخسران. ما أردنا هذا ولا أردنا الشخوص الآليين الخارقين أو ذوي القوى الغامضة. نحن نتحدث عما هو أهم وأوسع . نريد أن يشكل العلم بعضاً منسجماً وطبيعياً من المادة الادبية الانسانية، ويظل الشخوص طبيعيين والحياة كما هي حياتنا.
نريد انعطافة تجعل الادب الحديث أدباً معاصراً، مكتمل المعاصرة ويمثل حياتنا كلها. في الحياة مؤثر، يمنح طعاماً دفئاً ويصنع طرقاً وأسرّة ووسائط نقل ويمكننا من رؤية الكون ويغير حياتنا يوماً بعد يوم. الادب يعرف هذا ولكن لايتبناه ولا ادخله في عالمه ليكون من مكونات جسد الادب والا تظل العواطف هي السائدة الحاكمة والعقل على مبعدة نخشى إذا اقترب ان تفسد الكتابة! والغريب إن قاموس اوكسفورد الوجيز Concise Oxford Dictionary يعرّف قصة الخيال العلمي بـ "انها قصة خيالية تستند الى اكتشافات مفترضة او الى تحول في الظواهر غالباً ما تحدث في رحلات الفضاء والحياة على الكواكب ... الخ . إذاً هي خيالية وهي اكتشافات علمية مفترضة Postulated وهكذا ابتعدت عما نحن نسعى إليه. نحن نتحدث عن حياة واقعية جد واقعية وعن عصر هو عصرنا. بقي هل نستطيع أن نحدِث تحولاً في النسيج الادبي، في مكوّنات المضمون الادبي أم لا نستطيع ؟ هذا هو السؤال..