توفيق التميميالان انتهت هجرة الفتى الاسمر الطيب صالح في الاتجاهات المتعاكسة مابين شمال مضيء بالملذات والانبهار وجنوب مطفأ بالفقر والبؤس والهزائم.وصل الطيب صالح الى نهاية المطاف في هجرته الاخيرة ليصطف مع سلسلة ذهبية سبقته الى هناك حيث (لوعة الغياب)
تستقبل عبقريا جديدا من عباقرتها الافذاذ وأحد صناع المسرات والجمال في تاريخ الرواية العربية المعاصرة وواحد من العلامات الفارقة في تاريخ السودان المعاصر، ليس بين شواخصها الابداعية فحسب بل في كل مثاباتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على امتداد القرن السابق، حيث نجح الطيب الصالح بايجاد حلقة الندية المفقوة في الحوار اللامتكافئ بين الشرق والغرب. احد ابرز اسرار المعاجز الابداعية في حياة الطيب الصالح ومشروعه الروائي الخطير ذلك السعي المبكر وعلى طريقته الخاصة للوصول الى بقعة آمنة لن يبلغها من قبله توفيق الحكيم في (عصفور الشرق) والشاب البوهيمي سهيل ادريس في زوايا اللذة والتيه في (الحي اللاتيني) فيبلغها بطله الاثير في ذاكرتنا (مصطفى سعيد) ذلك الذي مازال ما ثلا حتى اللحظة وهو يلوح لنا نحن المتفرجين على هزائمنا وانكساراتنا بلا حول او قوة.. مازال يلوح ويصرخ بالنجدة.. النجدة ولم نسعفه ولم نسعف انفسنا من الغرق واهدار كل مدخرات البطولة والاعتزاز فضاعت في خضم الامواج المتلاطمة سجادته الشرقية واوانيه القروية وتعاويذ اجداده السمر في اول لقاء مباغت مع العالم الاخر بأضوائه ومباذخه واستفزازته. ظل (مصطفى سعيد) يجوب مسارات التيه دون ان يفلح كما الذين سبقوه في توحيد الامكنة والارواح البشرية باختلاف الوانها ولغاتها على بقعة آمنة من الورق الابيض ليترك العالم في لحظة محتقنة من الصراعات والاحترابات المحتملة بين هذه الالوان واللغات، تجهض احلام الرواة المبدعين وتصالح نبوءات الساسة وجنرالات الحروب. على عتبات موسم هجرته الاخيرة لا يسعني الا ان اتذكر الفرق الحاصل بين موت واخر، موت الطيب صالح هو من نوع الموت الذي يضرب عميقا في لوعته ويفجر في الذاكرة ينابيع من الجمال وفيوضات من العطاء تمتد في الروح وتتقمص الذاكرة الجمعية لجيل كامل اعطاه الروائي دروسا مهمة على ندرتها في الحصول على المجد والقبض على ناصيته ليس بقطار الموهبة وحدها بل بالمثابرة الجدية لتطوير هذه الموهبة والمرابطة في مسقط الراس وحمله كامانة على عاتق الموهبة وذمة الابداع.ما فعله العبقري الطيب صالح ذلك الفتى الاسمر قبل ان يلملم اوراقه الاخيرة في بدايات حفلة الكون الالكترونية الصاخبة الجديدة وفي زمن سطوة الايقونات الزرقاء هو الزهو بعمامته القروية وهو يخطو في شوارع سوهو ويعتلي منصات اكسفورد ليتكلم بلغات الغرب عن طعم طين قريته السودانية دون ان يخامره اي شعور بالدونية او بالتفوق الوهمي.ولهذا خسرت السودان ابنها البار الذي حمل تعويذتها وهو يفتح طلاسم ضباب مدينة الحرية والصخب والعطايا. والعزاء في هذه الخسارة ذلك اليقين الذي ستتكفل به بقايا روايات الطيب صالح المتالقة على رفوف المكتبات العربية والعالمية بصناعة مجد لن يمحى بسهولة يوفر لاسمه حصانة ضد النسيان يتسرب من مسالك الكلمات وسيولة الحبر الممزوج برائحة عرق الفلاح السوداني وايقاع اغنيةأفريقية الطعم تنساب من فجر قروي لايستشعر نكهته الا من تقمص تاريخ بلاده وعذاباتها واشعار اهلها المنسيين والتي نهلت منها عبقرية الروائي (عرس الزين) و(ودومة ود حامد). وبقية الروايات الشحيحة التي ترجمت عبقريته بسطوع وخلفت وراءها سلسلة من الاسئلة المربكة تتــــراوح بالحيرة وتنتظر الاجابات المستعصية ما بين مسالك الهجرات المتعاكسة التي لن تتـوقف بعد غيابه.
وداعاً أيها الطيب الصالح
نشر في: 16 إبريل, 2010: 04:23 م